نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُواْ ٱلرِّبَوٰٓاْ أَضۡعَٰفٗا مُّضَٰعَفَةٗۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ} (130)

ولما كان الختم بهاتين الصفتين ربما أطمع في انتهاك الحرمات لاتباع الشهوات{[19097]} فكان مبعداً لمتعاطيه من الرحمة مدنياً من النقمة ، وكان أعظم المقتضيات للخذلان تضييعهم للثغر{[19098]} الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بحفظه بسبب{[19099]} إقبالهم{[19100]} قبل {[19101]}إتمام هزيمة{[19102]} العدو على الغنائم{[19103]} للزيادة في الأعراض الدنيوية التي هي معنى{[19104]} الربا في اللغة إذ هو {[19105]}مطلق الزيادة{[19106]} أقبل تعالى عليهم بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان ، صدقوا إيمانكم بأن { لا تأكلوا الربا } أي المقبح{[19107]} فيما تقدم أمره غاية التقبيح ، وهو كما ترى إقبال متلطف{[19108]} منادٍ لهم باسم الإيمان الناظر إلى الإنفاق المعرض عن التحصيل{ ومما رزقناهم ينفقون{[19109]} }[ البقرة : 3 ] ؛{ والمنفقين والمستغفرين بالأسحار{[19110]} }[ آل عمران : 17 ] ؛{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون{[19111]} }[ آل عمران : 92 ] ناهٍ عن الالتفات إلى الدنيا بالإقبال على غنيمة أو غيرها بطريق الإشارة بدلالة التضمن ، إذ المطلق جزء المقيد ، ففي هذه العبارة التي صريحها ناهٍ عن الإقبال على الدنيا إقبالاً{[19112]} يوجب الإعراض عن الآخرة باستباحة أكل الربا المتقدم في البقرة من النهي عنه من المبالغة ما يردع من له أدنى تقوى ، ويوجب لمن لم يتركه{[19113]} وما يقاربه الضمان بالخذلان في كل زمان

{ فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله{[19114]} }[ البقرة : 278 ] ، { أولئك{[19115]} الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون }[ البقرة : 86 ] .

ولما كان في تركه الإثخان في العدو بعد زوال المانع منه بالهزيمة مع أن فيه من حلاوة الظفر ما يجل عن الوصف لأجل الغنيمة التي هي لمن{[19116]} غلب{[19117]} ، وليس في المبادرة إلى حوزها كبير فائدة ، دلالة على تناهي الحب للتكاثر ، ناسب المقام ربا التضعيف فقال : - أو يقال : لما كان سبب الهزيمة طلبهم الزيادة بالغنيمة ، وكان حب الزيادة حلالاً قد يجر إلى حبها

حراماً ، فيجر إلى الربا المضاعف ، لأن من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه قال - : { أضعافاً مضاعفة } أي لا تتهيؤوا{[19118]} لذلك بإقبالكم على مطلق الزيادة ، فإن المطلوب منكم بذل المال فضلاً عن الإعراض عنه فضلاً عن الإقبال عليه ، فالحاصل أنه دلت على الربا بمطابقتها ، وعلى مطلق

الزيادة بتضمنها ، وهي من وادي{[19119]} قوله صلى الله عليه وسلم : " من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه "

وختام الآية بقوله : { واتقوا الله } أي الملك الأعظم { لعلكم تفلحون } مشير إلى ذلك ، أي و{[19120]}اجعلوا بينكم وبين مخالفة نهيه عن الربا{[19121]} وقاية بالإعراض عن{[19122]} مطلق محبة الدنيا والإقبال عليها ، لتكونوا على رجاء من الفوز بالمطالب ، فمن له ملك الوجود وملكه فإنه دير بأن يعطيكم من ملكه إن اتقيتم ، ويمنعكم{[19123]} إن تساهلتم ، فهو{[19124]} نهي عن الربا بصريح العبارة ، وتحذير من أن يعودوا إلى ما صدر منهم من الإقبال على الغنائم قبل انفصال الحرب فعلاً{[19125]} وقوة بطريق الإشارة ، وهي من أدلة إمامنا الشافعي على استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، والذي دلنا{[19126]} على إرادة المعنى التضمني{[19127]} المجازي نظمها ، والناظم حكيم في سلك هذه القصة{[19128]} ووضعها في هذا الموضع ، فلا يقدح في ذلك أنه قد كان في هذه القصة أمر يصلح أن يكون سبباً لنزول هذه الآية ووضعها عنا ، لأن ذلك غير لازم ولا مطرد ، فقد كان حلفه{[19129]} صلى الله عليه وسلم أنه يمثل بسبعين منهم كما مثلوا بعمه حمزة رضي الله عنه سبباً لنزول آخر سورة النحل{ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به{[19130]} }[ النحل : 126 ] إلى آخرها ، ولم توضع هنا ، والأمر الصالح لأن يكون سبباً لها ما روى أبو داود في سننه بسند رجاله رجال الصحيح عن أبي هريرة أن عمروا بن أقيش{[19131]} رضي الله عنه كان له ربا في الجاهلية ، فكره أن يسلم حتى يأخذه ، فجاء يوم أحد فقال : أين بنو عمي ؟ قالوا : بأحد{[19132]} ، {[19133]}قال : أين{[19134]} فلان{[19135]} ؟ قالوا : بأحد ، قال : فأين فلان ؟ قالوا : بأحد ؛ فلبس لأمته وركب فرسه ثم توجه قبلهم ، فلما رآه{[19136]} المسلمون قالوا : إليك عنا يا عمرو ! قال : إني قد آمنت ، فقاتل حتى{[19137]} جرح ، فحمل إلى أهله جريحاً ، فجاءه سعد بن معاذ رضي الله عنه فقال لأخته : سليه : حمية لقومك أو غضباً لهم ، أم غضباً{[19138]} لله عز وجل ؟ فقال : بل غضباً لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فمات فدخل الجنة وما صلى لله{[19139]} عز وجل صلاة . والقصة في جزء{[19140]} عبيد الله بن محمد بن حفص العيشي{[19141]} - بالمهملة ثم التحتانية ثم المعجمة - تخريج أبي القاسم عبد الله ابن محمد بن عبد العزيز البغوي ، والجزء السابع عشر من المجالسة للدينوري من طريق حماد بن سلمة شيخ{[19142]} أبي داود ، ولفظ العيشي{[19143]} : إن عمرو بن وقش - وقال الدينوري : أقيش - كان له ربا في الجاهلية ، وكان يمنعه ذلك{[19144]} الربا من الإسلام حتى يأخذه ثم يسلم ، فجاء ذات يوم ورسول الله صلى الله عليه وسلم - زاد الدينوري : وأصحابه بأحد فقال : أين سعد ابن معاذ ؟ وقال العيشي{[19145]} : فقال لقومه : أين سعد بن معاذ ؟ قالوا : هو بأحد ، قال الدينوري : فقال : أين بنو أخيه ؟ قالوا : بأحد ، فسأل عن قومه ، فقالوا : بأحد ، فأخذ سيفه ورمحه ولبس لأمته ، ثم أتى أحداً ؛ وقال الدينوري : ثم ذهب إلى أحد ، فلما رآه المسلمون قالوا : إليك عنا يا عمرو ! قال : إني قد آمنت ! فقاتل فحمل إلى أهله جريحاً ، فدخل عليه{[19146]} سعد بن معاذ فقال - يعني لامرأته - : سليه ! وقال العيشي : فقال لأخته : ناديه ، فقولي ؛ وقال الدينوري : فقالت : أجئت غضباً لله ورسوله أم حمية وغضباً لقومك ؟ فنادته ، فقال : جئت غضباً لله ورسوله ! فمات فدخل الجنة ولم يصل لله قط ؛ وقال الدينوري : قال أبو هريرة : ودخل الجنة ، وما صلى لله صلاة .

ورواها ابن إسحاق والواقدي عن أبي هريرة رضي الله عنهم{[19147]} أنه كان يقول : حدثوني عن رجل دخل الجنة لم يصلِّ قط ؛ وقال الواقدي : أخبروني برجل يدخل الجنة لم يسجد{[19148]} لله قط ، فيسكت الناس ، فيقول أبو هريرة رضي الله عنه : هو أخو بني عبد الأشهل ؛ وقال ابن إسحاق : فإذا لم يعرفه الناس سألوا : من هو ؟ فيقول : أصيرم بني عبد الأشهل عمرو بن ثابت{[19149]} بن وقش{[19150]} رضي الله تعالى عنه ؛ زاد ابن إسحاق : قال الحصين{[19151]} - يعني شيخه : فقلت لمحمود بن لبيد : كيف كان شأن الأصيرم ؟ قال : كان يأبى الإسلام على قومه ، فلما كان يوم{[19152]} خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد بدا له في الإسلام فأسلم ، ثم أخذ سيفه فغدا{[19153]} حتى دخل في عرض الناس ، فقاتل حتى أثبتته{[19154]} الجراحة ، فبينما{[19155]} رجال من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم{[19156]} في المعركة إذا هم به ، فقالوا : والله إن هذا للأصيرم{[19157]} ! ما جاء به ؟ لقد تركناه وإنه لمنكر بذا{[19158]} الحديث ! فسألوه ما جاء به ، فقالوا : ما جاء بك يا عمرو ؟ أحدب{[19159]} على قومك أم رغبة في الإسلام ؟ فقال : بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله وبرسوله وأسلمت{[19160]} ، ثم أخذت سيفي فغدوت{[19161]} مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم{[19162]} قاتلت حتى أصابني ما أصابني . ثم لم يلبث أن مات في أيديهم ، فذكروه{[19163]} لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " إنه لمن أهل الجنة " والمعنى على هذا : يا أيها الذين{[19164]} يريدون الإيمان ! لا تفعلوا مثل فعل الأصيرم في تأخير إيمانه لأجل الربا ، بل سابقوا الموت لئلا يأتيكم بغتة فتهلكوا ، أو يا أيها الذين أخبروا عن أنفسهم بالإيمان ورسوخ{[19165]} الإذعان في أنفسهم والإيقان{[19166]} بمر الزمان ! افعلوا{[19167]} مثل فعله{[19168]} ساعة أسلم{[19169]} في صدق الإيمان وإسلام نفسه إلى ربه بركوب الأهوال في غمرات القتال من غير خوف ولا توقف ولا التفات إلى أمر دنيوي وإن عظم ؛ فقد بان أنه نبه بالإشارة إلى قصة بدر ثم بهذه الآية على أن من أعرض عن الدنيا حصلت له بعز وإن كان قليلاً ، ومن أقبل عليها فاتته بذل وإن كان كثيراً{[19170]} جليلاً ، لأن مَن له ملك السماوات والأرض يفعل ما{[19171]} يشاء ، ولا تفيد{[19172]} الآية إباحة مطلق الفضل في الربا ما لم ينته إلى{[19173]} الأضعاف المضاعفة ، لأن إفهامها لذلك معارض لمنطوق{[19174]} آيات البقرة الناهية عن مطلق الربا ، والمفهوم لا يعمل به إذا عارض منطوق نص آخر ، وهذا من مزيد الاعتناء بشأن الربا إذ حرم كل نوع منه في آية تخصه ، فحرم ربا الفضل في آيات البقرة ، ويلزم من تحريمه تحريم ربا الأضعاف ، ثم نص عليه في هذه الآية ، فصار محرمأً مرتين : مفهوماً ومنطوقاً ، مع ما أفاد ذكره من النكت{[19175]} التي{[19176]} تقدم التنبيه عليها .


[19097]:سقط من ظ.
[19098]:من ظ ومد، وفي الأصل: للسفر ـ كذا.
[19099]:سقط من ظ.
[19100]:في ظ: لقاتلهم.
[19101]:من مد، وفي الأصل: تمام عزيمة، وفي ظ: إتمام عريمة ـ كذا.
[19102]:من مد، وفي الأصل: تمام عزيمة، وفي ظ: إتمام عريمة ـ كذا.
[19103]:في مد: العظائم.
[19104]:زيد من ظ ومد.
[19105]:من ظ ومد، وفي الأصل: معلق لزيادة.
[19106]:من ظ ومد، وفي الأصل: معلق لزيادة.
[19107]:في مد: المتقبح.
[19108]:في مد: متطلقا.
[19109]:سورة 2 آية 3.
[19110]:سورة 3 آية 17.
[19111]:سورة 3 آية 92.
[19112]:زيد بعده في الأصل: لا، ولم تكن الزيادة في ظ ومد فحذفناها.
[19113]:من ظ ومد، وفي الأصل: لم ينزله.
[19114]:سورة 2 آية 278.
[19115]:من القرآن المجيد سورة 2 آية 86، وفي الأصول: أوليكم ـ كذا.
[19116]:من ظ ومد، وفي الأصل: لها.
[19117]:زيد من مد.
[19118]:من ظ، وفي الأصل ومد: لا يتهيوا.
[19119]:في ظ: زادى.
[19120]:زيد من ظ ومد.
[19121]:في مد: الزيادة.
[19122]:في ظ: من.
[19123]:من مد، وفي الأصل وظ: ومنعكم، والعبارة من بعده إلى "ما صدر" ساقطة من ظ.
[19124]:في مد: فهي.
[19125]:من مد، وفي الأصل: فعال.
[19126]:من ظ ومد، وفي الأصل: أدلنا.
[19127]:من مد، وفي الأصل: المتضمن، وفي ظ: التضمين.
[19128]:العبارة من هنا إلى "هذه القصة" متكررة في ظ.
[19129]:في الأصل: خلقه، وفي ظ ومد: خلفه ـ كذا.
[19130]:سورة 16 آية 126.
[19131]:من سنن أبي داود ـ باب فيمن يسلم ويقتل مكانه في سبيل الله عز وجل، وفي الأصل ومد: أقيس، وفي ظ: قيس.
[19132]:العبارة من بعده إلى "قالوا بأحد" سقطت من ظ ومد.
[19133]:من السنن، وفي الأصول: قالوا أين.
[19134]:من السنن، وفي الأصول: قالوا أين.
[19135]:زيد من السنن.
[19136]:من السنن، وفي الأصول: رواه.
[19137]:زيد من من مد والسنن.
[19138]:زيد من السنن.
[19139]:من السنن، وفي النسخ: الله.
[19140]:في الأصل: جز، وفي ظ: جزى، وفي مد: جزا ـ كذا.
[19141]:من مد، وفي الأصل وظ: العبسي ـ كذا بالسين المهملة، وقد ضبطه المفسر رحمه الله.
[19142]:سقط من ظ.
[19143]:من مد، وفي الأصل وظ: العيسى.
[19144]:زيد من ظ ومد.
[19145]:من ظ ومد، وفي الأصل: العيسى.
[19146]:سقط من مد.
[19147]:زيد ما بين الحاجزين من مد.
[19148]:في ظ ومد: لم يصل.
[19149]:زيد من مد.
[19150]:من ظ ومد، وفي الأصل: وقس.
[19151]:في ظ: الحصنى.
[19152]:من ظ ومد، وفي الأصل: بينهم.
[19153]:في ظ: فغذا.
[19154]:من ظ ومد، وفي الأصل: أثبت.
[19155]:في مد: فبينا ـ كذا.
[19156]:في ظ: قتالهم ـ كذا.
[19157]:في ظ: الاصيرم.
[19158]:في مد: بهذا، وفي سيرة ابن هشام 2/88: لهذا.
[19159]:أي تعطف، وفي ظ: أحدث ـ كذا.
[19160]:زيد من مد.
[19161]:في ظ: وعدوت.
[19162]:زيد ظ ومد.
[19163]:في ظ: فذكره.
[19164]:زيد بعده في ظ: آمنوا.
[19165]:في ظ: رجوع.
[19166]:في ظ: الإيمان.
[19167]:في ظ: أفعل.
[19168]:من مد، وفي الأصل وظ: فعل.
[19169]:من مد، وفي الأصل وظ: يسلم
[19170]:من مد، وفي الأصل وظ: كبيرا.
[19171]:سقط من ظ.
[19172]:من ظ ومد، وفي الأصل: لا تقييد.
[19173]:سقط من ظ.
[19174]:من ظ ومد، وفي الأصل: المنطوق.
[19175]:في ظ: النكث.
[19176]:من مد، وفي الأصل وظ: الذي.