ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك جانبا من أكاذيب المشركين الناتجة عن استكبارهم وشقاقهم فقال : { وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الكافرون هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ . أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ . وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا وَاْصْبِرُواْ على آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرَادُ } . .
وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآيات روايات منها : " أن جماعة من قريش اجتمعوا فى نفر من مشيخة قريش ، فقال بعضهم لبعض : انطلقوا بنا إلى أبى طالب ، لنكلمه فى شأن ابن أخيه . . . فلما دخلوا على أبى طالب قالوا له : أنت كبيرنا وسيدنا ، فأنصفنا من ابن أخيك ، فمره فليكف عن شتم آلهتنا ، وندعه وإلهه .
فقال أبو طالب للنبى صلى الله عليه وسلم يا ابن أخى هؤلاء مشيخة قريش ، وقد سألوك أن تكف عن شتم آلهتهم ويدعوك وإلهك .
فقال صلى الله عليه وسلم : " يا عم ، أفلا أدعوهم إلى ما هو خير لهم ؟ قال : وإلام تدعوهم ؟ قال : أدعوهم أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ، ويملكون بها العجم " .
فقال أبو جهل بن القوم : ما هى وأبيك ؟ لنعطينها لك وشعرة أمثالها ، فقال صلى الله عليه وسلم : " تقولون : لا إله إلا الله " .
فنفر أبو جهل وقال : سلنا غير هذا .
فقال صلى الله عليه وسلم : " لو جئتمونى بالشمس حتى تضعوها فى يدى ، ما سألتكم غيرها "
فقاموا غضابا . وقالوا : والله لنشتمنك وإلهك الذى أرسلك بهذا " .
وقوله - تعالى - { وعجبوا . . . } مأخوذ من العجب ، وهو تغير فى النفس من أمر لا ترتاح إليه ، وتخفى لديها أسبابه .
أى : وعجب هؤلاء الكافرون من مجئ منذر منهم ينذرهم بسوء عاقبة الشرك . ويأمرهم بعبادة الله - تعالى - وحده .
{ وَقَالَ } هؤلاء { الكافرون } عندما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الدين الحق .
{ هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ } أى : قالوا : هذا الرسول ساحر لأنه يأتينا بخوارق لم نألفها ، وكذاب فيما يسنده إلى الله - تعالى - من أنه - سبحانه - أرسله إلينا .
وقال - سبحانه - : { وَقَالَ الكافرون } بالإِظهار دون الإِضمار ، لتسجيل الكفر والجحود عليهم . وللإِيذان بأن كفرهم هو الباعث لهم على وصف الرسول صلى الله عليه وسلم بما هو منزه عنه من السحر والكذب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وعجبوا أن جاءهم} محمد صلى الله عليه وسلم.
{وقال الكافرون} من أهل مكة {هذا ساحر} يفرق بين الاثنين.
{كذاب} يعنون النبي صلى الله عليه وسلم حين يزعم أنه رسول.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وعجب هؤلاء المشركون من قريش أن جاءهم منذر ينذرهم بأس الله على كفرهم به من أنفسهم، ولم يأتهم مَلك من السماء بذلك، "وَقالَ الكافِرُونَ هَذا ساحِرٌ كَذّابٌ "يقول: وقال المنكرون وحدانية الله: هذا، يعنون محمدا صلى الله عليه وسلم، ساحر كذّاب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
عَجِبُوا أن جاءَهم مُنْذِرٌ منهم، ولم يعجبوا أن تكون المنحوتاتُ آلهةً، وهذه مناقضة ظاهرة. فلمَّا تحيَّروا في شأن أنبيائهم رَمَوْهم بالسحر، وقسَّموا فيهم القول...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَقَالَ الكافرون} ولم يقل: وقالوا: إظهاراً للغضب عليهم، ودلالة على أنّ هذا القول لا يجسر عليه إلاّ الكافرون المتوغلون في الكفر المنهمكون في الغيّ الذين قال فيهم: {أُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون حَقّاً} [النساء: 151] وهل ترى كفراً أعظم وجهلاً أبلغ من أن يسموا من صدّقه الله بوحيه كاذباً.
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار كونهم في عزة وشقاق أردفه بشرح كلماتهم الفاسدة فقال: {وعجبوا أن جاءهم منذر منهم} في قوله: {منهم} وجهان:
الأول، أنهم قالوا: إن محمدا مساو لنا في الخلفة الظاهرة والأخلاق الباطنة والنسب والشكل والصورة، فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي والدرجات الرفيعة.
الثاني: أن الغرض من هذه الكلمة التنبيه على كمال جهالتهم، وذلك لأنه جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد وتعظيم الملائكة والترغيب في الآخرة، والتنفير عن الدنيا، ثم إن هذا الرجل من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيدا من الكذب والتهمة؛ وكل ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه، ثم إن هؤلاء الأقوام لحماقتهم يتعجبون من قوله، ونظيره قوله: {أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون}... وبالجملة فما كان لهذا التعجب سبب إلا الحسد...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان جعل المنذر منهم ليس محلاًّ للعجب فعدوه عجباً؛ لما ظهر من تقسيمهم القول فيه، عجب منهم في قوله: {وعجبوا أن} أي لأجل أن {جاءهم} ولما كان تعجبهم من مطلق نذارته لا مبالغته فيها أتى باسم الفاعل دون فعيل فقال: {منذر منهم} أي من البشر ثم من العرب ثم من قريش ولم يكن من الملائكة مثلاً وكان ينبغي لهم أن لا يعجبوا من ذلك؛ فإن كون النذير بما يحل من المصائب من القوم المنذرين -مع كونه أشرف لهم- أقعد في النذارة؛ لأنهم أعرف به وبما هو منطو عليه من صدق وشفقة وغير ذلك، وهو الذي جرت به العوائد في القديم والحديث لكونهم إليه أميل، فهم لكلامه أقبل.
ولما كانوا أعرف الناس بهذا النذير صلى الله عليه وسلم في أنه أصدقهم لهجة وأعلاهم همة وأنه منفي عنه كل نقيصة ووصمة، زاد في التعجيب بأن قال معبراً بالواو دون الفاء لأن وصفهم له بالسحر ليس شبيه هذا العجب: {وقال}.
ولما كان أقرب ما يقدحون به فيه: السحر قذفوه به ولم يعبروا بصيغة مبالغة لئلا يكون ذلك إيضاحاً جاذباً للقلوب إليه فقالوا: {ساحر}.
{كذاب}...وأتوا بوقاحة بصيغة المبالغة وقد كانوا قبل ذلك يسمونه الأمين، وهم يعلمون أنه لم يتجدد له شيء إلا إتيانه بأصدق الصدق وأحق الحق، مع ترقيه في معارج الكمال من غير خفاء على أحد له أدنى تأمل.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
قصة العجب من أن يكون الرسول بشراً قصة قديمة، مكرورة معادة، قالها كل قوم وتعللوا بها منذ بدء الرسالات، وتكرر إرسال الرسل من البشر؛ وظل البشر مع هذا يكررون الاعتراض...
(وعجبوا أن جاءهم منذر منهم).. وأوجب شيء وأقرب شيء إلى الحكمة والمنطق أن يكون المنذر منهم. بشراً يدرك كيف يفكر البشر وكيف يشعرون؛ ويحس ما يعتلج في نفوسهم، وما يشتجر في كيانهم، وما يعانون من نقص وضعف، وما يجدون من ميول ونزعات، وما يستطيعون أو لا يستطيعون من جهد وعمل، وما يعترضهم من عوائق وعقبات، وما يعتريهم من مؤثرات واستجابات.. بشراً يعيش بين البشر -وهو منهم- فتكون حياته قدوة لهم، وهم يحسون أنه واحد منهم، وأن بينهم وبينه شبهاً وصلة. فهم مطالبون إذن بالمنهج الذي يأخذ به نفسه ويدعوهم لاتباعه. وهم قادرون على الأخذ بهذا المنهج فقد حققه أمامهم بشر منهم في واقع حياته... بشراً منهم. من جيلهم. ومن لسانهم. يعرف مصطلحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وتفصيلات حياتهم. ويعرفون لغته، ويفهمون عنه، ويتفاهمون معه، ويتجاوبون وإياه. ومن ثم لا تقوم بينه وبينهم جفوة من اختلاف جنسه. أو اختلاف لغته. أو اختلاف طبيعة حياته أو تفصيلات حياته. ولكن أوجب شيء وأقربه إلى أن يكون، هو الذي كان دائماً موضع العجب، ومحط الاستنكار، وموضوع التكذيب! ذلك أنهم كانوا لا يدركون حكمة هذا الاختيار؛ كما كانوا يخطئون تصور طبيعة الرسالة. وبدلاً من أن يروها قيادة واقعية للبشرية في الطريق إلى الله. كانوا يتصورونها خيالية غامضة محوطة بالأسرار التى لا يصح أن تكون مفهومة هكذا وقريبة! كانوا يريدونها مثلاً خيالية طائرة لا تلمس بالأيدي، ولا تبصر في النور، ولا تدرك في وضوح، ولا تعيش واقعية في دنيا الناس! وعندئد يستجيبون لها كأسطورة غامضة كما كانوا يستجيبون للأساطير التي تؤلف عقائدهم المتهافتة!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استقرّ في نفوسهم استحالة بعثة رسول منهم فذلك سبب آخر لانصرافهم عن التذكر بالقرآن.
العجب حقيقته: انفعال في النفس ينشأ عن علم بأمر غير مترقب وقوعه عند النفس، ويطلق على إنكار شيء نادر على سبيل المجاز بعلاقة اللزوم كما في قوله تعالى: {قالوا أتعجبين من أمر اللَّه} [هود: 73].
المنذر: الرسول، أي منذر لهم بعذاب على أفعال هم متلبسون بها...
{وَقَالَ الكافرون هذا ساحر كَذَّابٌ}. بعد أن كُشف ما انطوت عليه نفوسهم من العزة والشقاق وإحالة بعثة رسول للبشر من جنسهم، حوسبوا بما صرحوا به من القول في مجلسهم ذلك، إشارةً بهذا الترتيب إلى أن مقالتهم هذه نتيجة لعقيدتهم تلك.
{الكافِرونَ} لقصد وصْفهم بأنهم كافرون بربهم مقابَلَة لما وَصَمُوا به النبي صلى الله عليه وسلم فوُصفوا بما هو شتم لهم يجمع ضروباً من الشتم تأصيلاً وتفريعاً وهو الكفر الذي هو جماع فساد التفكير وفاسد الأعمال.
{هذا} أشاروا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم استعملوا اسم الإِشارة لتحقير مثله في قولهم: {أهذا الذي يذكر آلهتكم} [الأنبياء: 36] وإنما قالوا مقالتهم هذه حين انصرافهم من مجلس أبي طالب المذكورِ في سبب نزول السورة جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم لقرب عهدهم بمحضره كأنه حاضر حين الإِشارة إليه...
وجَعلوا حالهُ سحراً وكذباً لأنهم لما لم تقبَل عقولهم ما كلمهم به زعموا ما لا يفهمون منه مثل كون الإله واحداً أو كونه يعيد الموتى أحياء سحراً إذ كانوا يألفون من السحر أقوالاً غير مفهومة كما تقدم عند قوله تعالى: {يعلمون الناس السحر} في سورة [البقرة: 102]. وزعموا ما يفهمونه ويحيلونه مثل ادعاء الرسالة عن الله كذباً. وبينوا ذلك بجملتين: إحداهما {أجعل الآلهة إلها واحداً}، والثانية جملة {أءُنزلَ عليه الذكر من بيننا}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
المغرورون والمتكبّرون لا يعترفون بأمر لا يلائم أفكارهم المحدودة والناقصة، إذ يعتبرون أفكارهم المحدودة والناقصة مقياساً لكلّ القيم.