ثم أمر - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يجاهد الكفار والمنافقين جهادا كبيرا فقال : { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ } .
وخص النبى - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالجهاد ، مع أن الأمر به يشمل المؤمنين معه ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بالجهاد ، مع أن الأمر به يشمل المؤمنين معه ، لأنه - صلى الله عليه وسلم - هو قائدهم ورائدهم .
وجهاده - صلى الله عليه وسلم - للكفار يكون بدعوتهم إلى الحق حتى يسلموا ، فإذا لم يستجيبوا جاهدهم بالسيف والسلاح حتى يزهق باطلهم .
وجهاده للمنافقين يكون بتأديبهم وزجرهم وإلقاء الرعب فى قلوبهم ، حتى يأمن المؤمنون شرهم ، وحتى يشعروا بأن النبى والمؤمنين لهم بالمرصاد .
والغلظة فى الأصل : تطلق على الشىء الصلب الغليظ ، والمراد بها هنا : معاملتهم بالشدة والخشونة والقسوة . . . حتى يأمن المؤمنون جانبهم ، ويتقوا شرهم .
أى : يا أيها النبى الكريم جاهد أنت ومن معك من المؤمنين ، الكفار والمنافقين . وعاملهم جميعا بالخشونة والغلظة . . . حتى يهابوك أنت ومن معك ، وحتى تكونوا فى مأمن منهم ومن أذاهم إذ الحق لا بد له من قوة تحميه وتدفع عنه كيد أعدائه .
وقوله - تعالى - : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } بيان لسوء مصيرهم فى الآخرة .
أى : أن هؤلاء الكافرين والمنافقين ، حالهم فى الدنيا المجاهدة والمعاملة التى لا تسامح معها ولا تساهل ، حتى تكون كلمتهم السفلى ، وكلمة الله - تعالى - هى العليا .
أما حالهم فى الآخرة ، فالإلقاء بهم فى جهنم ، وبئس المأوى والمسكن جهنم ، فالمخصوص بالذم محذوف ، وهو جهنم ، أو المأوى .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد أرشدت النبى - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، إلى ما يسعدهم فى دنياهم وآخرتهم .
وفي سبيل حماية الجماعة المسلمة الأولى كان الأمر لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بمجاهدة أعدائها : ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين ، واغلظ عليهم ، ومأواهم جهنم وبئس المصير ) . .
وهي لفتة لها معناها وقيمتها بعدما تقدم من أمر المؤمنين بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار . وبالتوبة النصوح التي تكفر عنهم السيئات وتدخلهم الجنة تجري من تحتها الأنهار . .
لها معناها وقيمتها في ضرورة حماية المحضن الذي تتم فيه الوقاية من النار . فلا تترك هذه العناصر المفسدة
الجائرة الظالمة ، تهاجم المعسكر الإسلامي من خارجه كما كان الكفار يصنعون . أو تهاجمه من داخله كما كان المنافقون يفعلون .
وتجمع الآية بين الكفار والمنافقين في الأمر بجهادهم والغلظة عليهم . لأن كلا من الفريقين يؤدي دورا مماثلا في تهديد المعسكر الإسلامي ، وتحطيمه أو تفتيته . فجهادهم هو الجهاد الواقي من النار . وجزاؤهم هو الغلظة عليهم من رسول الله والمؤمنين في الدنيا .
( ومأواهم جهنم وبئس المصير )في الآخرة !
وهكذا تتناسق هذه الجولة فيما بين آياتها واتجاهاتها ؛ كما تتناسق بجملتها مع الجولة الأولى في السياق . .
هذه الآية تأكيد لأمر الجهاد وفضله المتقدم ، والمعنى دم على جهاد الكافرين بالسيف ، وجاهد المنافقين بنجههم وإقامة الحدود عليهم وضربهم في كل جرائمهم ، وعند قوة الظن بهم ، ولم يعين الله تعالى لرسوله منافقاً يقع القطع بنفاقه ، لأن التشهد الذي كانوا يظهرون كان ملبساً لأمرهم مشبهاً لهم بالعصاة من الأمة . والغلظة عليهم هي فظاظة القلب والانتهار وقلة الرفق بهم ، وقرأ الضحاك : «وأغلِظ » بسكر اللام وقطع الألف ، وهذان المثلان اللذان للكفار والمؤمنين معناهما : أن من كفر لا يغني عنه شيء ولا ينفعه وَزَرٌ{[11195]} ولو كان متعلقاً بأقوى الأسباب ، وأن من آمن لا يدفعه دافع عن رضوان الله تعالى ولو كان في أسوأ منشأ وأخسر حال . وقال بعض الناس : إن في المثلين عبرة لزوجات النبي محمد عليه السلام ، حين تقدم عتابهن ، وفي هذا بعد لأن النص أنه للكفار يبعد هذا .
لما أبلغ الكفار ما سيحل بهم في الآخرة تصريحاً بقوله : { يأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم } [ التحريم : 7 ] ، وتعريضاً بقوله : { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } [ التحريم : 8 ] ، أمَرَ رسولَه صلى الله عليه وسلم بمسمع منهم بأن يجاهدهم ويجاهد المستترين لكفرهم بظاهر الإِيمان نفاقاً ، حتى إذا لم تؤثر فيهم الموعظة بعقاب الآخرة يخشون أن يسلط عليهم عذاب السيف في العاجلة فيقلعوا عن الكفر فيصلح نفوسهم وإنما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك لأن الكفار تألبُوا مع المنافقين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذوهم عيوناً لهم وأيدي يدسُّون بها الأذى للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين .
فهذا نداء ثان للنبيء صلى الله عليه وسلم يأمره بإقامة صلاح عموم الأمة بتطهيرها من الخبثاء بعد أن أمره بإفاقة من عليهما الغفلة عن شيء من واجب حسن المعاشرة مع الزوج .
وجهاد الكفار ظاهر ، وأما عطف { المنافقين } على { الكفار } المفعول ل { جاهد } فيقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بجهاد المنافقين وكان حال المنافقين ملتبساً إذ لم يكن أحد من المنافقين معلناً بالكفر ولا شُهد على أحد منهم بذلك ولم يعين الله لرسوله صلى الله عليه وسلم منافقاً يوقن بنفاقه وكفره أو أطلعه إطلاعاً خاصاً ولم يأمره بإعلانه بين المسلمين كما يؤخذ ذلك من أخبار كثيرة في الآثار .
فتعين تأويل عطف { المنافقين } على { الكفار } إما بأن يكون فعل { جاهد } مستعملاً في حقيقته ومجازه وهما الجهاد بالسيف والجهاد بإقامة الحجة والتعريض للمنافق بنفاقه فإن ذلك يطلق عليه الجهاد مجازاً كما في قوله صلى الله عليه وسلم " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " ، وقوله للذي سأله الجهاد فقال له : « ألك أبوان ؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهد » .
وعندي أن الأقرب في تأويل هذا العطف أن يكون المراد منه إلقاء الرعب في قلوب المنافقين ليشعروا بأن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالمرصاد بهم فلو بدت من أحدهم بادرة يعلم منها نفاقه عومل معاملة الكافر في الجهاد بالقتل والأسر فيحذروا ويكفوا عن الكيد للمسلمين خشية الافتضاح فتكون هذه الآية من قبيل قوله تعالى : { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلاً } [ الأحزاب : 60 ، 61 ] .
والغلظة : حقيقتها صلابة الشيء وهي مستعارة هنا للمعاملة بالشدة بدون عفو ولا تسامح ، أي كن غليظاً ، أي شديداً في إقامة ما أمر الله به أمثالهم . وتقدم عند قوله تعالى : { وليجدوا فيكم غلظة } في سورة [ براءة : 123 ] ، وقوله : { ولو كنت فظاً غليظ القلب } في سورة [ آل عمران : 159 ] .
والمأوى : المسكن ، وهو مفعل من أوى إذا رجع لأن الإِنسان يرجع إلى مسكنه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها النبي جاهد الكفار} بالسيف {والمنافقين} بالقول {واغلظ عليهم} يعني في الشدة بالقول عليهم {ومأواهم جهنم وبئس المصير}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم طيا أيّها النّبِيّ جاهِد الكُفّارَ" بالسيف "وَالمُنافِقينَ" بالوعيد واللسان... عن قتادة، قوله: "يا أيّها النّبِيّ جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ" قال: أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام أن يجاهد الكفار بالسيف، ويغلظ على المنافقين بالحدود.
"وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ" يقول: واشدد عليهم في ذات الله.
"ومَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ" يقول: ومكثهم جهنم، ومصيرهم الذي يصيرون إليه نار جهنم "وَبِئْسَ المَصِيرُ" قال: وبئس الموضع الذي يصيرن إليه جهنم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
[جاهد] المنافقين بالقول الذي يردع عن القبيح لا بالحرب إلا أن فيه بذل المجهود، فلذلك سماه جهادا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أمَرَه بالمُلايَنَةِ في وقت الدعوة، وقال: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ثم لمَّا أصرُّوا -بعد بيان الحُجَّةِ- قال: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}: لأن هذا في حالِ إصرارهم، وزوالِ أعذارهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يا أيها النبي} منادياً بأداة التوسط إسماعاً للأمة الوسطى تنبيهاً على أنهم المنادون في الحقيقة...
{جاهد الكفار} أي المجاهرين بكل ما يجهدهم فيكفهم من السيف وما دونه...
{والمنافقين} أي المساترين بما يليق بهم من الحجة إن استمروا على المساترة، والسيف إن احتيج إليه إن أبدوا نوع مظاهرة {وأغلظ} أي كن غليظاً بالفعل والقول بالتوبيخ والزجر والإبعاد والهجر {عليهم} فإن الغلظة عليهم من اللين لله كما أن اللين لأهل الله من خشية الله، وقد أمره سبحانه باللين لهم في أول الأمر لإزالة أعذارهم وبيان إصرارهم، فلما بلغ الرفق أقصى مداه جازه إلى الغلظة وتعداه...
{ومأواهم} أي في الآخرة {جهنم} أي الدركة النارية التي تلقى داخلها بالعبوسة والكراهة. ولما كان التقدير: إليها مصيرهم لا محالة، عطف عليه قوله: {وبئس المصير} أي هي، فذلك جزاء الله لهم عن الإساءة إلى أوليائه والانتقاص لأحبائه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين، واغلظ عليهم، ومأواهم جهنم وبئس المصير).. وهي لفتة لها معناها وقيمتها بعدما تقدم من أمر المؤمنين بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار. وبالتوبة النصوح التي تكفر عنهم السيئات وتدخلهم الجنة تجري من تحتها الأنهار.. لها معناها وقيمتها في ضرورة حماية المحضن الذي تتم فيه الوقاية من النار. فلا تترك هذه العناصر المفسدة الجائرة الظالمة، تهاجم المعسكر الإسلامي من خارجه كما كان الكفار يصنعون. أو تهاجمه من داخله كما كان المنافقون يفعلون. وتجمع الآية بين الكفار والمنافقين في الأمر بجهادهم والغلظة عليهم. لأن كلا من الفريقين يؤدي دورا مماثلا في تهديد المعسكر الإسلامي، وتحطيمه أو تفتيته. فجهادهم هو الجهاد الواقي من النار. وجزاؤهم هو الغلظة عليهم من رسول الله والمؤمنين في الدنيا...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أمَرَ رسولَه صلى الله عليه وسلم بمسمع منهم بأن يجاهدهم ويجاهد المستترين لكفرهم بظاهر الإِيمان نفاقاً، حتى إذا لم تؤثر فيهم الموعظة بعقاب الآخرة يخشون أن يسلط عليهم عذاب السيف في العاجلة فيقلعوا عن الكفر فيصلح نفوسهم وإنما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك لأن الكفار تألبُوا مع المنافقين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فاتخذوهم عيوناً لهم وأيدي يدسُّون بها الأذى للنبيء صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين. فهذا نداء ثان للنبيء صلى الله عليه وسلم يأمره بإقامة صلاح عموم الأمة بتطهيرها من الخبثاء بعد أن أمره بإفاقة من عليهما الغفلة عن شيء من واجب حسن المعاشرة مع الزوج...
ومجاهدة الكافرين غير المسلمين تكون لأمرين:
الأمر الأول: حين يعارض غير المسلمين الدعوة إلى الإيمان، وأن يقفوا في سبيل الداعي إليه ليسكتوه عن الدعوة إلى الله.
والأمر الثاني: أن ينتشر المسلمون في الأرض ليعلوا كلمة الله، ليس إكراها عليها فالدين لا إكراه فيه، والسيف الذي حمل في الإسلام لم يحمل ليفرض دينا، وإنما حمل ليكفل حرية الاختيار للإنسان في أن يختار الدين الذي يريد اعتناقه بلا إكراه.
وتحرير اختيار الإنسان إنما ينشأ بإزاحة العقبات التي تفرض عليه دينا آخر، ثم يستقبل الإنسان الأديان كلها فيختار بحرية الدين الذي يرتضيه.
وما دام الجهاد فريضة بهذا المعنى، فكل مسلم مكلف بأن يجاهد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
بما أنّ المنافقين يفرحون لإفشاء أسرار الرّسول وإذاعة الأخبار الداخلية عن بيته، ويرحبون ببروز المشاجرات والاختلافات بين زوجاته التي مضت الإشارة إليها في الآيات السابقة بل إنّهم كانوا يساهمون في إشاعة تلك الأخبار وإذاعتها بشكل أوسع، نظراً لكلّ ذلك فقد خاطب القرآن الكريم الرّسول بأن يشدّد على المنافقين والكافرين ويغلّظ عليهم...