ثم وضح - سبحانه - ما أعده للمؤمنين الصادقين من ثواب جزيل فقال : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أى : لنسترن عنهم سيئاتهم ، ولنزيلنها - بفضلنا وإحساننا - من صحائف أعمالهم .
ثم بعد ذلك { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أى : ولنجزينهم بأحسن الجزاء على أعمالهم الصالحة التى كانوا يعملونها فى الدنيا ، بأن نعطيهم على الحسنة عشر أمثالها .
قال الجمل ما ملخصه : قوله : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات . . } يجوز أن يكون مرفوعا بالابتداء ، والخبر جملة القسم المذحوف ، وجوابها أى : والله لنكفرن . ويجوز أن يكون منصوبا بفعل مضمر على الاشتغال . أى : ونخلص الذين آمنوا من سيئاتهم . .
وقال { أَحْسَنَ } لأنه سبحانه إذا جازاهم بالأحسن ، جازاهم بما هو دونه . فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى .
( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ، ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ) .
فليطمئن المؤمنون العاملون على ما لهم عند الله ، من تكفير للسيئات ، وجزاء على الحسنات . وليصبروا على تكاليف الجهاد ؛ وليثبتوا على الفتنة والابتلاء ؛ فالأمل المشرق والجزاء الطيب ، ينتظرانهم في نهاية المطاف . وإنه لحسب المؤمن حتى لو فاته في الحياة الانتصاف .
وقوله : { وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } ، كقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ } [ فصلت : 46 ] أي : من عمل صالحا فإنما يعود نفع عمله على نفسه ، فإن الله غني عن أفعال العباد ، ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل [ واحد ]{[22489]} منهم ، ما زاد ذلك في ملكه شيئا ؛ ولهذا قال : { وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ } .
قال الحسن البصري : إن الرجل ليجاهد ، وما ضرب يوما من الدهر بسيف .
ثم أخبر أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم من إحسانه وبره بهم يجازي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أحسن الجزاء ، وهو أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ، ويجزيهم أجرهم بأحسن ما{[22490]} كانوا يعملون ، فيقبل القليل من الحسنات ، ويثيب عليها الواحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] ، وقال هاهنا : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ }
وقوله تعالى : { والذين آمنوا } الآية إخبار عن المؤمنين المهاجرين الذين هم في أعلى رتبة من البدار إلى الله تعالى رفع بهم عز وجل وبحالهم ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة وهم الذين فتنهم الكفار إلى الحصول في هذه المرتبة ع و «السيئات » ، الكفر وما اشتمل عليه ويدخل في ذلك في المعاصي من المؤمنين مع الأعمال الصالحات واجتناب الكبائر ، وفي قوله عز وجل { ولنجزينهم أحسن } حذف مضاف تقديره ثواب أحسن الذي كانوا يعملون{[9209]} .
يجوز أن يكون عطفاً على جملة { أم حَسِب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا } [ العنكبوت : 4 ] لما تضمنته الجملة المعطوف عليها من التهديد والوعيد ، فعطف عليها ما هو وعد وبشارة للذين آمنوا وعملوا الصالحات مع ما أفضى إلى ذكر هذا الوعد من قوله قبله { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } [ العنكبوت : 6 ] فإن مضمون جملة { والذين ءامنوا وعملوا الصالحات } الآية يفيد بيان كون جهاد من جاهد لنفسه .
ويجوز أن تكون عطفاً على جملة { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } [ العنكبوت : 6 ] وسلك بها طريق العطف باعتبار ما أومأ إليه الموصول وصلته من أن سبب هذا الجزاء الحسن هو أنهم آمنوا وعملوا الصالحات وهو على الوجه إظهار في مقام الإضمار لنكتة هذا الإيماء .
فالجزاء فضل لأن العبد إذا امتثل أمر الله فإنما دفع عن نفسه تبعة العصيان ؛ فأما الجزاء على طاعة مولاه فذلك فضل من المولى ، وغفران ما تقدم من سيئاتهم فضل عظيم لأنهم كانوا أحقاء بأن يؤاخذوا بما عملوه وبأن إقلاعهم عن ذلك في المستقبل لا يقتضي التجاوز عن الماضي لكنه زيادة في الفضل .
وانتصب { أحسنَ } على أنه وصف لمصدر محذوف هو مفعول مطلق من فعل { لنجزينهم } . والتقدير : ولنجزينهم جزاءً أحسن .
وإضافته إلى { الذي كانوا يعملون } لإفادة عِظَم الجزاء كله فهو مقدَّر بأحسن أعمالهم . وتقدير الكلام : لنجزينهم عن جميع صالحاتهم جزاء أحسن صالحاتهم . وشمل هذا من يكونون مشركين فيؤمنون ويعملون الصالحات بعد نزول هذه الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فيجزيهم بإحسانهم، ولا يجزيهم بمساوئهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: والذين آمنوا بالله ورسوله، فصحّ إيمانهم عند ابتلاء الله إياهم وفتنته لهم، ولم يرتدّوا عن أديانهم بأذى المشركين إياهم "وعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ "التي سلفت منهم في شركهم "وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أحْسَنَ الّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ" يقول: ولنثيبنهم على صالحات أعمالهم في إسلامهم، أحسن ما كانوا يعملون في حال شركهم مع تكفيرنا سيئات أعمالهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم} كان ما عملوا من الحسنات والصالحات يكفر بها سيئاتهم...
{ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} هذا يحتمل وجوها: أحدها: أن جزاءهم الذي يجزون بتلك الأعمال أحسن من أعمالهم التي عملوا، لأن قدر ذلك الجزاء عندهم أعظم وأحسن من قدر أعمالهم، إذ ليس لأعمالهم عندهم كثير قيمة وقدر، إذ منهم من يحيي ليلة بدرهم وبما يسد به حاجته في يوم وليلة.
الثاني: أن الأعمال التي يعملها الناس تكون على وجوه: سيئات تكفر بالتوبة أو بما يعاقبون عليها، وحسنات يجزون بها الثواب الجزيل، وإباحات يعملونها لحوائج أنفسهم لا يعاقبون عليها ولا يثابون. فيقول، والله أعلم {ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} وهو الحسنات والخيرات التي عملوها.
والثالث: أن يكون قوله: {ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} أن يكفّر سيئاتهم بنوع من الحسنات، ويثابوا على أحسنها، وهو ما قال: {لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون} والله أعلم بذلك.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
التكفير: إذهاب السيئة بالحسنة، وهو معنى قوله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات). والإحباط: هو إذهاب الحسنة بالسيئة.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
إما أن يريد قوماً مسلمين صالحين قد أساءوا في بعض أعمالهم وسيئاتهم مغمورة بحسناتهم فهو يكفرها عنهم، أي يسقط عقابها بثواب الحسنات ويجزيهم أحسن الذي كانوا يعملون، أي: أحسن جزاء أعمالهم: وإما قوماً مشركين آمنوا وعملوا الصالحات، فالله عز وجل يكفر سيئاتهم بأن يسقط عقاب ما تقدم لهم من الكفر والمعاصي ويجزيهم أحسن جزاء أعمالهم في الإسلام.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{والذين آمنوا} الآية إخبار عن المؤمنين المهاجرين الذين هم في أعلى رتبة من البدار إلى الله تعالى، رفع بهم عز وجل وبحالهم ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة، وهم الذين فتنهم الكفار إلى الحصول في هذه المرتبة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير: فالذين كفروا وعملوا السيئات لنجزينهم أجمعين، ولكنه طواه لأن السياق لأهل الرجاء، عطف عليه قوله: {والذين آمنوا وعملوا} تصديقاً لإيمانهم {الصالحات} في الشدة والرخاء على حسب طاقتهم، واشار بقوله: {لنكفرن عنهم سيئاتهم} إلى أن الإنسان وإن اجتهد لا بد أن يزل لأنه مجبول على النقص، فالصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينهما ما لم يؤت الكبائر، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان ونحو ذلك مما وردت به الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فليطمئن المؤمنون العاملون على ما لهم عند الله، من تكفير للسيئات، وجزاء على الحسنات. وليصبروا على تكاليف الجهاد؛ وليثبتوا على الفتنة والابتلاء؛ فالأمل المشرق والجزاء الطيب، ينتظرانهم في نهاية المطاف. وإنه لحسب المؤمن حتى لو فاته في الحياة الانتصاف.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يجوز أن يكون عطفاً على جملة {أم حَسِب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا} [العنكبوت: 4] لما تضمنته الجملة المعطوف عليها من التهديد والوعيد، فعطف عليها ما هو وعد وبشارة للذين آمنوا وعملوا الصالحات مع ما أفضى إلى ذكر هذا الوعد من قوله قبله {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} [العنكبوت: 6] فإن مضمون جملة {والذين ءامنوا وعملوا الصالحات} الآية يفيد بيان كون جهاد من جاهد لنفسه...
ويجوز أن تكون عطفاً على جملة {ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه} [العنكبوت: 6] وسلك بها طريق العطف باعتبار ما أومأ إليه الموصول وصلته من أن سبب هذا الجزاء الحسن هو أنهم آمنوا وعملوا الصالحات وهو على الوجه إظهار في مقام الإضمار لنكتة هذا الإيماء...
فالجزاء فضل لأن العبد إذا امتثل أمر الله فإنما دفع عن نفسه تبعة العصيان؛ فأما الجزاء على طاعة مولاه فذلك فضل من المولى، وغفران ما تقدم من سيئاتهم فضل عظيم لأنهم كانوا أحقاء بأن يؤاخذوا بما عملوه وبأن إقلاعهم عن ذلك في المستقبل لا يقتضي التجاوز عن الماضي لكنه زيادة في الفضل...
وانتصب {أحسنَ} على أنه وصف لمصدر محذوف هو مفعول مطلق من فعل {لنجزينهم}. والتقدير: ولنجزينهم جزاءً أحسن. وإضافته إلى {الذي كانوا يعملون} لإفادة عِظَم الجزاء كله فهو مقدَّر بأحسن أعمالهم. وتقدير الكلام: لنجزينهم عن جميع صالحاتهم جزاء أحسن صالحاتهم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... فلا يبقى من الماضي شيءٌ للمستقبل، بل يتحرك الحاضر والمستقبل من دون أية عقدةٍ تثير الحزن، أو أيّة مشكلةٍ تربك الحياة، لأن الله لا يريد للإنسان أن يبقى خاضعاً لعقدة الذنب في ما أخطأ فيه في الماضي، بل يريده أن يتحرر من ذلك، لتتجدد روحيته في الجو النظيف الطاهر، والأفق الصافي المشرق، ليكون الإنسان الجديد التائب الذي تمحو توبته كل سواد الماضي، ليبقى مجرد درس للمستقبل، ووعيٍ لكل مشاكل الطريق {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فلا يؤثر على درجتهم التي يرفعهم الله إليها، أيُّ شيء مما فعلوه، أو مما قد يعلق بها من سيئاتٍ صغيرةٍ، لا ينقص من ثوابهم شيءٌ، لأن طبيعة العمق في إيمانهم والثبات في مواقفهم والاستقامة في خطهم، تجعل العمل منطلقاً من الروحية العالية التي يجتمع فيها الإيمان والخير، فيعطيه روحاً جديدة، ومعنىً كبيراً من معاني الإخلاص لله، والانفتاح على رضوانه...