{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ . أَوَ آبَآؤُنَا الأولون } .
أى : أنهم لم يكتفوا بقولهم : إن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم سحر واضح ، بل أضافوا إلى ذلك على سبيل المبالغة فى الإِنكار لما جاءهم به قولهم : أئذا متنا وانتهت حياتنا ووضعنا فى قبورنا ، وصرنا تراباً وعظاما أئنا لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى ؟ وهل آباؤنا الأولون الذين صاروا من قبلنا عظاما ورفاتا يبعثون أيضاً ؟
ولا شك أن قولهم هذا دليل واضح على انطماس بصائرهم ، وعلى شدة غفلتهم عن آثار قدرة الله - تعالى - التى لا يعجزها شئ . والتى من آثارها إيجادهم من العدم .
ولذا لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يخرس ألسنتهم فقال : { قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } .
ومن ذلك وصفهم القرآن بأنه سحر ، وعجبهم مما يعدهم به من البعث :
وقالوا : إن هذا إلا سحر مبين . أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون ? أو آباؤنا الأولون ? . .
لقد غفلوا عن آثار قدرة الله فيما حولهم ، وفي ذات أنفسهم . غفلوا عن آثار هذه القدرة في خلق السماوات والأرض وما بينهما ؛ وفي خلق الكواكب والشهب ؛ وفي خلق الملائكة والشياطين ؛ وفي خلقهم هم أنفسهم من طين لازب . . غفلوا عن آثار القدرة في هذا كله ووقفوا يستبعدون على هذه القدرة أن تعيدهم إذا ماتوا وصاروا تراباً وعظاماً ، هم وآباءهم الأولين ! وما في هذا البعث والإعادة من غريب على تلك القدرة ولا بعيد ؛ لمن يتأمل هذا الواقع ويتدبره أقل تدبر ؛ في ضوء هذه المشاهدات التي تحيط بهم في الآفاق وفي أنفسهم .
وقرأ «مُتنا » بضم الميم أبو جعفر وابن أبي إسحاق وعاصم{[5]} وأبو عمرو والعامة ، وقرأ بكسر الميم الحسن والأعرج وشيبة ونافع .
وقد تقدم غير مرة ذكر القراءات في قوله { أئذا } على الخبر والاستفهام وما يلحقها من مد وتركه وإظهار همز وتسهيله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أئذا متنا وكنا ترابا وعظما أئنا لمبعوثون} بعد الموت.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 15]
يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون من قُرَيش بالله لمحمد صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذي جئتنا به "إلاّ سحرٌ مبين". يقول: يبين لمن تأمله ورآه أنه سحر. "أئِذَا مِتْنا وكُنّا تُرَابا وَعِظاما أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ "يقولون، منكرين بعث الله إياهم بعد بلائهم: أئنا لمبعوثون أحياء من قبورنا بعد مماتنا، ومصيرنا ترابا وعظاما، قد ذهب عنها اللحوم، "أوَ آباؤُنا الاوّلُونَ" الذين مضوا من قبلنا، فبادوا وهلكوا؟ يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء: نعم أنتم مبعوثون بعد مصيركم ترابا وعظاما أحياء كما كنتم قبل مماتكم، وأنتم داخرون... وقوله: "وأنْتُم داخِرُونَ" يقول تعالى ذكره: وأنتم صاغرون أشدّ الصّغَر من قولهم: صاغر داخر.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أئذا متنا، تفرّقت أجزاؤنا، وَصرنا رميماً.. أئنا لمبعوثون؟ أَوَ آباؤنا الأولون يُبعثون كذلك؟ قالوه على جهة الاستبعاد؛ فالمعرفة لهم مفقودة، والبصائر لهم مسدودة، وقلوبهم عن التوحيد مصدودة...
بين تعالى أن السبب الذي يحملهم على الاستهزاء بالقول بالبعث، وعلى عدم الالتفات إلى الدلائل الدالة على صحة القول، وعلى الاستهزاء بجميع المعجزات هو قولهم: إن الذي مات وتفرقت أجزاؤه في جملة العالم، فما فيه من الأرضية اختلط بتراب الأرض، وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم، فهذا الإنسان كيف يعقل عوده بعينه حيا فاهما؟ فهذا الكلام هو الذي يحملهم على تلك الأحوال الثلاثة المتقدمة.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
أصله أنبعث إذا متنا فبدلوا الفعلية بالاسمية، وقدموا الظرف وكرروا الهمزة مبالغة في الإنكار، وإشعارا بأن البعث مستنكر في نفسه، وفي هذه الحالة أشد استنكارا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم خصوا البعث بالإنكار؛ إعلاما بأنه أعظم مقصود بالنسبة إلى السحر،فقالوا مظهرين له في مظهر الإنكار: {أإذ متنا} وعطفوا عليه ما هو موجب عندهم لشدة الإنكار فقالوا: {وكنا} أي كوناً هو في غاية التمكن.
{تراباً} قدموه لأنه أدل على مرادهم لأنه أبعد عن الحياة.
{وعظاماً} كأنهم جعلوا كل واحد من الموت والكون إلى الترابية المحضة والعظامية المحضة أو المختلطة منهما مانعاً من البعث، وهذا بعد اعترافهم أن ابتداء خلقهم كان من التراب مع أن هذا ظاهر جداً "ولكن عقول ضلها باريها "ثم كرروا الاستفهام الإنكاري على قراءة من قرأ به زيادة في الإنكار فقالوا: {أإنا لمبعوثون}.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
تقديمُ الظَّرفِ لتقويةِ الإنكارِ للبعث، بتوجيههِ إلى حالةٍ منافيةٍ له غايةَ المُنافاة، وكذا تحليةُ الجملةِ بأنْ واللاَّمِ لتأكيدِ الإنكارِ، لا لإنكارِ التَّأكيدِ كما يُوهمه ظاهرُ النَّظمِ الكريمِ.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
من العجب أيضا، قياسهم قدرة رب الأرض والسماوات، على قدرة الآدمي الناقص من جميع الوجوه، فقالوا استبعادا وإنكارا: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} ولما كان هذا منتهى ما عندهم، وغاية ما لديهم، أمر اللّه رسوله أن يجيبهم بجواب مشتمل على ترهيبهم...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والاستفهام في قوله: {أإذا متنا} إنكاري كما تقدم فلذلك كان قوله تعالى: {قُلْ نَعَمْ} جواباً لقولهم {أءِذَا مِتْنَا} على طريقة الأسلوب الحكيم بصرف قصدهم من الاستفهام إلى ظاهر الاستفهام فجعلوا كالسائلين: أيبعثون؟ فقيل لهم: نعم، تقريراً للبعث المستفهم عنه، أي نعم تبعثون. وجيء ب {قل} غير معطوف لأنه جار على طريقة الاستعمال في حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى: {قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها} في سورة [البقرة: 30].