قوله تعالى : { واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة } ، قيل : هذا أيضا في أبي لبابة ، وذلك أن أمواله وأولاده كانوا في بني قريظة ، فقال ما قال خوفاً عليهم ، وقيل : هذا في جميع الناس .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي إملاءً ، وأبو بكر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي ، قالا : حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفراييني أنا محمد بن محمد بن رزمويه ، حدثنا يحيى بن محمد بن غالب ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود ، عن عروة ، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصبي فقبله وقال : أما إنهم مبخلة مجبنة ، وإنهم لمن ريحان الله عز وجل .
قوله تعالى : { وأن الله عنده أجر عظيم } ، لمن نصح لله ولرسوله وأدى أمانته .
ولما كان حب الأموال والأولاد والاشتغال بهم من أهم دواعى الاقدام على الخيانة ، نبه - سبحانه - إلى ذلك فقال : { واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
أى : واعلموا - أيها المؤمنون - أنما أموالكم وأولادكم فتنة ، أي امتحان واختبار لكم من الله - تعالى - ليتبين قوى الإِيمان من ضعيفه .
أما قوى الإِيمان فلا يشغله ماله وولده عن طاعة الله ، وأما ضعيف الإِيمان فيشغله ذلك عن طاعة الله ويجعله يعيش حياته عبداً لأمواله ، ومطيعا لمطالب أولاده حتى ولو كانت هذه الطاعة متنافية مع تعاليم دينه وآدابه .
وقال صاحب المنار : الفتنة هى الاختبار والامتحان بما يشق على النفس فعله أو تركه ، أو قبوله أو إنكاره .
وأموال الإِنسان عليها مدار حياته ، وتحصيل رغائبه وشهواته ، ودفع كثير من المكاره عنه ، فهو يتكلف في طلبها المشاق ، ويكرب الصعاب ، ويكلفه الشرع يها التزام الحلال واجتناب الحرام ، ويرغبه في القصد والاعتدال في إنفاقها .
وأما الأولاد فحبهم - كما يقول الأستاذ الامام - ضرب من الجنون يلقيه الفاطر الحكيم في قلوب الأمهات والاباء ، فيحملهم على بذل كل ما يستطاع بذله في سبيلهم .
روى أبو ليلى من حديث أبى سعيد الخدرى مرفوعا " الولد ثمرة القلب ، وإنه مجبنة مبخلة محزنة " . فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الآثام ، وعلى الجبن ، وعلى البخل ، وعلى الحزن .
فالواجب على المؤمن اتقاء خطر الفتنة الأولى يسكب المال من وجوهه الحلال ، وإنفاقه في وجوهه المشروعة . . واتقاء خطر الفتنة الثانية باتباع ما أوجبه الله على الآباء من حسن تربية الأولاد على الدين والفضائل ، وتجنبهم أسباب المعاصى والراذئل .
وقوله { وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } تذييل قصد به ترغيب المؤمنين في طاعة الله ، بعد أن حذرهم من فتنة المال والولد .
أى : واعلموا أن الله عند أجر عظيم لمن آثر طاعته ورضاه على جمع المال وحب الأولاد ، فكونوا - أيها المؤمنون - من حزب المؤثرين لحب الله على حب الأموال والأولاد لتنالوا السعادة في الدنيا والآخرة .
وكل أولئك في حاجة إلى التضحية والصبر والاحتمال ؛ وإلى الاستعلاء على فتنة الأموال والأولاد ، وإلى التطلع إلى ما عند الله من الأجر العظيم ، المدخر لعباده الأمناء على أماناته ، الصابرين المؤثرين المضحين :
( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ، وأن الله عنده أجر عظيم ) . .
إن هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية ، بما يعلم خالقها من تركيبها الخفي ، وبما يطلع منها على الظاهر والباطن ، وعلى المنحنيات والدروب والمسالك !
وهو - سبحانه - يعلم مواطن الضعف في هذه الكينونة . ويعلم أن الحرص على الأموال وعلى الأولاد من أعمق مواطن الضعف فيها . . ومن هنا ينبهها إلى حقيقة هبة الأموال والأولاد . . لقد وهبها الله للناس ليبلوهم بها ويفتنهم فيها . فهي من زينة الحياة الدنيا التي تكون موضع امتحان وابتلاء ؛ ليرى الله فيها صنيع العبد وتصرفه . . أيشكر عليها ويؤدي حق النعمة فيها ? أم يشتغل بها حتى يغفل عن أداء حق الله فيها ? : ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) . . فالفتنة لا تكون بالشدة وبالحرمان وحدهما . . إنها كذلك تكون بالرخاء وبالعطاء أيضا ! ومن الرخاء العطاء هذه الأموال والأولاد . .
( واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ) . . فإذا انتبه القلب إلى موضع الامتحان والاختبار ، كان ذلك عونا له على الحذر واليقظة والاحتياط ؛ أن يستغرق وينسى ويخفق في الامتحان والفتنة .
ثم لا يدعه الله بلا عون منه ولا عوض . . فقد يضعف عن الأداء - بعد الانتباه - لثقل التضحية وضخامة التكليف ؛ وبخاصة في موطن الضعف في الأموال والأولاد ! إنما يلوّح له بما هو خير وأبقى ، ليستعين به على الفتنة ويتقوى :
( وأن الله عنده أجر عظيم ) . .
إنه - سبحانه - هو الذي وهب الأموال والأولاد . . وعنده وراءهما أجر عظيم لمن يستعلي على فتنة الأموال والأولاد ، فلا يقعد أحد إذن عن تكاليف الأمانة وتضحيات الجهاد . . وهذا هو العون والمدد للإنسان الضعيف ، الذي يعلم خالقه مواطن الضعف فيه : ( وخلق الإنسان ضعيفاً ) .
إنه منهج متكامل في الاعتقاد والتصور ، والتربية والتوجيه ، والفرض والتكليف . منهج الله الذي يعلم ؛ لأنه هو الذي خلق : ( ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ? ) .
وقوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ } أي : اختبار وامتحان منه لكم ؛ إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه{[12859]} فيها ، أو تشتغلون بها عنه ، وتعتاضون بها منه ؟ كما قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التغابن : 15 ] ، وقال : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [ المنافقون : 9 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } الآية [ التغابن : 14 ] .
وقوله : { وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي : ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد ، فإنه قد يوجد منهم عدو ، وأكثرهم لا يغني عنك شيئا ، والله ، سبحانه ، هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة ، ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة .
وفي الأثر يقول [ الله ]{[12860]} تعالى : " ابن آدم ، اطلبني تَجدني ، فإن وَجَدْتَنِي وجَدْتَ كل شيء ، وإن فُتُّكَ فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء " .
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه قال ]{[12861]} ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ{[12862]} أنقذه الله منه " {[12863]}
بل حب رسوله مقدم على الأولاد والأموال والنفوس ، كما ثبت في الصحيح أنه ، عليه السلام ، قال : " والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين " {[12864]}