والمراد بالسماء في قوله - تعالى - : { والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } : جهة العلو ، أو السحاب المنتشر في طبقات الجو العليا ، والذي تنزل منه الأمطار .
والمراد بإحياء الأرض : تحرك القوى النامية فيها ، وإظهار ما أودعه الله - تعالى - فيها من نبات وأزهار ، وثمرات ، وغير ذلك مما تنبته الأرض .
والمراد بموتها : خلوها من ذلك ، بسبب استيلاء القحط والجدب عليها .
قال - تعالى - : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } ، أي : وكما أنزل الله - تعالى - كتابه ليكون هداية ورحمة لقوم يؤمنون ، أنزل - سبحانه - أيضا الماء من السماء على الأرض ، فتحولت بسبب نزول هذا الماء المبارك الكثير عليها ، من أرض جدباء خامدة ، إلى أرض خضراء رابية .
ثم حرض - سبحانه - عباده على التدبر والشكر ، فقال - تعالى - : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } ، أي : إن في ذلك الذي فعلناه بقدرتنا وحدها ، من إنزال الماء من السماء ، وإحياء الأرض به من بعد موتها ، لآية عظيمة ، وعبرة جليلة ، ودلالة واضحة تدل على وحدانيتنا وقدرتنا وحكمتنا ، { لقوم يسمعون } ، ما يتلى عليهم من كلام الله - تعالى - سماع تدبر واعتبار ، فيعملون بما اشتمل عليه من توجيهات حكيمة وإرشادات سديدة .
فالمراد بالسمع : سمع القلوب والعقول ، لا سمع الآذان فقط ، إذ سمع الآذان بدون وعي واستجابة للحق ، لاقيمة له ، ولا فائدة ترجى من ورائه .
وعند هذا الحد يأخذ السياق في استعراض آيات الألوهية الواحدة فيما خلق الله في الكون ، وفيما أودع الإنسان من صفات واستعدادات ، وفيما وهبه من نعم وآلاء ، مما لا يقدر عليه أحد إلا الله
وقد ذكر في الآية السابقة إنزال الكتاب - وهو خير ما أنزل الله للناس وفيه حياة الروح - فهو يتبعه بإنزال الماء من السماء ، وفيه حياة الأجسام :
( والله أنزل من السماء ماء ، فأحيا به الأرض بعد موتها . إن في ذلك لآية لقوم يسمعون )
والماء حياة كل حي : والنص يجعله حياة للأرض كلها على وجه الشمول لكل ما عليها ومن عليها . والذي يحول الموت إلى حياة هو الذي يستحق أن يكون إلها : إن في ذلك لآية لقوم يسمعون فيتدبرون ما يسمعون . فهذه القضية . قضية آيات الألوهية ودلائلها من الحياة بعد الموت ذكرها القرآن كثيرا ووجه الأنظار إليها كثيرا ، ففيها آية لمن يسمع ويعقل ويتدبر ما يقال .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَاللّهُ أَنْزَلَ مِنَ الْسّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } .
يقول تعالى ذكره منبه خَلقِه على حججه عليهم في توحيده ، وأنه لا تنبغي الألوهة إلا له ، ولا تصلح العبادة لشيء سواه : أيها الناس معبودكم الذي له العبادة دون كلّ شيء ، أنْزَلَ مِنَ السّماء ماءً ، يعني : مطرا ، يقول : فأنبت بما أنزل من ذلك الماء من السماء الأرض الميتة التي لا زرع بها ولا عُشْبَ ولا نبت بَعْدَ مَوْتِها ، بعد ما هي ميتة لا شيء فيها ، إن في ذلكَ لآيةً ، يقول تعالى ذكره : إن في إحيائنا الأرض بعد موتها بما أنزلنا من السماء من ماء ، لدليلاً واضحا وحجة قاطعة ، عذر من فكر فيه لَقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ، يقول : لقوم يسمعون هذا القول فيتدبرونه ويعقلونه ، ويطيعون الله بما دلهم عليه .
وقوله تعالى : { والله أنزل من السماء ماء } الآية ، لما أمره بتبيين ما اختلف فيه ، نص العبر المؤدية إلى تبيين أمر الربوبية ، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر ، وهي ملاك الحياة ، وهي في غاية الظهور ، لا يخالف فيها عاقل ، و «حياة الأرض وموتها » ، استعارة وتشبيه بالحيوان ، فإذ هي هامدة غبراء غير منبتة ، فهي كالميت ، وإذ هي منبتة مخضرة مهتزة رابية ، فهي كالحي ، وقوله : { يسمعون } ، يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وبيانه ؛ لأنه لا يحتاج إلى تفكر ولا نظر قلب ، وإنما يحتاج المنبه إلى أن يسمع القول فقط .
انتهى الكلام المعترض به وعاد الكلام إلى دلائل الانفراد بالخلق مع ما أدمج فيه ذلك من التذكير بالنّعم . فهذه منّة من المنن وعبرة من العبر وحجّة من الحجج المتفرّعة عن التذكير بنعم الله والاعتبار بعجيب صنعه .
عاد الكلام إلى تعداد نعم جمّة ومعها ما فيها من العبر أيضاً جمعاً عجيباً بين الاستدلال ووصلاً للكلام المفارَق عند قوله تعالى : { وبالنجم هم يهتدون } [ سورة النحل : 16 ] ، كما علمته فيما تقدم . فكان ذكر إنزال الماء في الآية السابقة مسوقاً مساق الاستدلال ، وهو هنا مسوق مساق الامتنان بنعمة إحياء الأرض بعد موتها بالماء النازل من السماء .
وبهذا الاعتبار خالفت هذه النّعمة النّعمة المذكورة في قوله سابقاً { هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر } [ سورة النحل : 10 ] باختلاف الغرض الأوّلي ، فهو هنالك الاستدلال بتكوين الماء وهنا الامْتنان .
وبناء الجملة على المسند الفعلي لإفادة التخصيص ، أي الله لا غيره أنزل من السماء ماء . وذلك في معنى قوله تعالى : { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } [ سورة الروم : 40 ] . وإظهار اسم الجلالة دون الإضمار الذي هو مقتضى الظاهر لقصد التّنويه بالخبر إذ افتتح بهذا الاسم ، ولأن دلالة الاسم العلم أوضح وأصرح . فهو مقتضى مقام تحقيق الانفراد بالخلق والإنعام دون غيره من شركائهم ، لأن المشركين يقرّون بأن الله هو فاعل هذه الأشياء .
وإحياء الأرض : إخراج ما فيه الحياة ، وهو الكلأ والشجر . وموتها ضد ذلك ، فتعدية فعل ( أحيا ) إلى الأرض تعدية مجازية . وقد تقدم عند قوله تعالى : { فأحيا به الأرض بعد موتها } في سورة البقرة ( 164 ) ، وتقدّم وجه العبرة في آية نزول المطر هنالك .
وجملة { إن في ذلك لآية } مستأنفة . والتأكيد ب { إنّ } ولام الابتداء لأن من لم يهتد بذلك إلى الوحدانية ينكرون أن القوم الذين يسمعون ذلك قد علموا دلالته على الوحدانية ، أي ينكرون صلاحية ذلك للاستدلال .
والإتيان باسم الإشارة دون الضمير ليكون محل الآية جميعَ المذكورات من إنزال المطر وإحياء الأرض به وموتها من قبل الإحياء .
والكلام في « قوم يسمعون » كالكلام في قوله آنفاً : { لقوم يؤمنون } [ سورة النحل : 64 ] .
والسمع : هنا مستعمل في لازم معناه على سبيل الكناية ، وهو سماع التدّبر والإنصاف لما تدبّروا به . وهو تعريض بالمشركين الذين لم يفهموا دلالة ذلك على الوحدانية . ولذلك اختير وصف السمع هنا المراد منه الإنصاف والامتثال لأن دلالة المطر وحياة الأرض به معروفة مشهورة ودلالة ذلك على وحدانية الله تعالى ظاهرة لا يصدّ عنها إلا المكابرة .