ثم ختم - سبحانه - الرد على هؤلاء الذين لا يرجون لقاءه ، بالحكم عليهم بعدم الفلاح فقال - تعالى - { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون } والاستفهام في قوله : { فَمَنْ أَظْلَمُ } للإِنكار والنفي .
أي : لا أحد أشد ظلما عند الله ، وأجدر بعقابه وغضبه ، ممن افترى عليه الكذب ، بأن نسب إليه - سبحانه - ما هو برئ منه ، أو كذب بآياته وحججه التي أنزلها لتأييد رسله .
وقوله : { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون } تذييل قصد به التهديد والوعيد .
أي : إن حال وشأن هؤلاء المجرمين ، أنهم لا يفلحون . ولا يصلون إلى ما يبغون ويريدون .
هذا ، وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات بعض الشواهد الدالة على صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغه عن ربه عند تفسيره لهذه الآية : " لا أحد أشد ظلما ممن افترى على الله كذبا ، وتقول على الله ، وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك . . ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء . فإن من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا . فلابد أن الله ينصب من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس . فإن الفرق بين محمد - صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حندس الظلماء . فمن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - وكذب مسيلمة . . "
وقل لهم : ما كان لي أن أفتري على الله الكذب ، وأن أقول : إنه أوحي إلي إلا بالحق . فليس هنالك ما هو أشد ظلما ممن يفتري على الله أو من يكذب بآيات الله :
( فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته ? ) . . وأنا أنهاكم عن ثانية الجريمتين ، وهي التكذيب بآيات الله ، فلا أرتكب أولاهما ولا أكذب على الله :
يقول تعالى : لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراما { مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } وتَقَوّل{[14108]} على الله ، وزعم أن الله أرسله ، ولم يكن كذلك ، فليس أحد أكبر جرمًا ولا أعظم ظُلما من هذا ، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء ، فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء ! فإن من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا ، فلا بد أن الله يَنصب عليه من الأدلة على برِّه أو فُجُوره ما{[14109]} وأظهر من الشمس ، فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب [ لعنة الله ]{[14110]} لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى ووقت نصف الليل في حنْدس الظلماء ، فَمِنْ سيما كل منهما وكلامه وفعاله يَستدّل من له بصيرة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وكذب مسيلمة الكذاب ، وسَجَاح ، والأسود العَنْسي{[14111]} .
قال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انْجَفَل الناس ، فكنت فيمن انجفل ، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه رجل كذاب ، فكان أول ما سمعته يقول : " يا أيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، [ وصلوا الأرحام ]{[14112]} وصلوا بالليل والناس نيام ، تدخلون الجنة بسلام " {[14113]} . ولما قَدم ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في{[14114]} قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله فيما قال له{[14115]} من رفع هذه السماء ؟ قال : " الله " . قال : ومن نصب هذه الجبال ؟ قال : " الله " . قال : ومن سطح هذه الأرض ؟ قال : " الله " . قال : فبالذي رفع هذه السماء ، ونصب هذه الجبال ، وسَطَح هذه الأرض : الله أرسلك إلى الناس كلهم ؟ قال : " اللهم نعم " ثم{[14116]} سأله عن الصلاة ، والزكاة ، والحج ، والصيام ، ويحلف عند كل واحدة{[14117]} هذه اليمين ، ويحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : صدقت ، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص . {[14118]} فاكتفى هذا الرجل بمجرد هذا ، وقد أيقن بصدقه ، صلوات الله وسلامه عليه ، بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه ، كما قال حسان بن ثابت :
لَو لم تَكُن{[14119]} فيه آياتٌ مُبَيّنة *** كانت بَديهَتُه{[14120]} تَأتيكَ بالخَبَرِ
وأما مسيلمة فمن شاهده من ذَوي البصائر ، علم أمره لا محالة ، بأقواله الركيكة التي ليست بفصيحة ، وأفعاله غير الحسنة بل القبيحة ، وقرآنه الذي يخلد به في النار يوم الحسرة{[14121]} والفضيحة ، وكم من فرق بين قوله تعالى : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [ البقرة : 255 ] . وبين عُلاك{[14122]} مسيلمة قبحه الله ولعنه : " يا ضفدع بنت{[14123]} الضفدعين ، نقي كما تنقين لا الماء تكدرين ، ولا الشارب تمنعين " . وقوله - قُبّح ولعن - : " لقد أنعم الله على الحبلى ، إذ أخرج منها نَسَمة تسعى ، من بين صِفَاق وحَشَى " . وقوله - خَدّره{[14124]} الله في نار جهنم ، وقد فعل - : " الفيل وما أدراك ما الفيل ؟ له زُلقُومٌ{[14125]} طويل " وقوله - أبعده الله من رحمته : " والعاجنات عجنا ، والخابزات خبزا ، واللاقمات{[14126]} لقما ، إهالة وسمنا ، إن قريشا قوم يعتدون " إلى غير ذلك من الهذيانات والخرافات التي يأنف الصبيان أن يتلفظوا بها ، إلا على وجه السخرية والاستهزاء ؛ ولهذا أرغم الله أنفه ، وشرب يوم " حديقة الموت " حتفه . ومَزّق{[14127]} شمله . ولعنه صحبُه وأهله . وقدموا على الصديق تائبين ، وجاءوا في دين الله راغبين ، فسألهم الصديق خليفة الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، ورضي [ الله ]{[14128]} عنه - أن يقرءوا عليه شيئا من قرآن مسيلمة لعنه الله ، فسألوه أن يعفيهم من ذلك ، فأبى عليهم إلا أن يقرءوا شيئا منه ليسمعه من لم يسمعه من الناس ، فيعرفوا فضل ما هم عليه{[14129]} من الهدى والعلم . فقرءوا عليه من هذا الذي ذكرناه وأشباهه ، فلما فرغوا قال لهم الصديق ، رضي الله عنه : ويحكم ! أين كان يُذهب بعقولكم ؟ والله إن هذا لم يخرج من إلٍّ .
وذكروا أن وفد عمرو بن العاص على مسيلمة ، وكان صديقا له في الجاهلية ، وكان عمرو لم يسلم بعدُ ، فقال له مسيلمة : ويحك يا عمرو ، ماذا أنزل على صاحبكم - يعني : رسول الله صلى الله عليه وسلم - في هذه المدة ؟ فقال : لقد سمعت أصحابه يقرءون سورة عظيمة قصيرة فقال : وما هي ؟ فقال : { وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } [ سورة العصر ] ، ففكر مسيلمة ساعة ، ثم قال : وقد أنزل عليّ مثله . فقال : وما هو ؟ فقال : " يا وَبْرُ{[14130]} إنما أنت أذنان وصدر ، وسائرك حَقْرٌ نَقْر ، كيف ترى يا عمرو ؟ " فقال له عمرو :{[14131]} والله إنك لتعلم أني أعلم أنك لتكذب " ، فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه ، لم يشتبه عليه حال محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه ، وحال مسيلمة - لعنه الله - وكذبه ، فكيف بأولي{[14132]} البصائر والنهى ، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجى ! ولهذا قال الله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ } [ الأنعام : 93 ] ، {[14133]} وقال في هذه الآية الكريمة : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } [ الأنعام : 21 ] ، وكذلك من كذّب بالحق الذي جاءت به الرسل ، وقامت عليه الحجج ، لا أحد أظلم منه كما جاء في الحديث : " أعتى الناس على الله رجلٌ قتل نبيا ، أو قتله نبي " . {[14134]}
القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذّبَ بِآيَاتِهِ إِنّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين الذين نسبوك فيما جئتهم به من عند ربك إلى الكذب : أي خلق أشر بعدنا وأوضع لقيله في غير موضعه ، ممن اختلف على الله كذبا وافترى عليه باطلاً أوْ كَذّبَ بآياتِهِ يعني بحججه ورسله وآيات كتابه . يقول له جلّ ثناؤه : قل لهم ليس الذي أضفتموني إليه بأعجب من كذبكم على ربكم وافترائكم عليه وتكذيبكم بآياته . إنّهُ لا يُفْلِحُ المُجْرِمُونَ يقول : إنه لا ينجح الذين اجترموا الكفر في الدنيا يوم القيامة إذا لقوا ربهم ، ولا ينالون الفلاح .
وقوله { فمن أظلم } الآية ، جاء في هذه الآية التوقيف على عظم جرم المفتري على الله بعد تقدم التنصل من ذلك قبل ، فاتسق القول واطردت فصاحته ، وقوله { فمن أظلم } استفهام وتقرير أي لا أحد أظلم { ممن افترى على الله كذباً } ، أو ممن { كذب بآياته } بعد بيانها ، وذلك أعظم جرم على الله وأكثر استشراف إلى عذابه ، ثم قرر { إنه لا يفلح } أهل الجرم ، و { يفلح } معناه يظفر ببغيته .
لما قامت الحجة عليها بما لا قبل لهم بالتنصل منه أعقبت بالتفريع على افترائهم الكذب وذلك مما عرف من أحوالهم من اتخاذهم الشركاء له كما أشار إليه قوله : { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا } أي أشركوا إلى قوله : { لننظر كيف تعملون } [ يونس : 13 ، 14 ] وتكذيبهم بآيات الله في قولهم : { ائت بقرآن غير هذا أو بدّله } [ يونس : 15 ] . وفي ذلك أيضاً توجيه الكلام بصلاحيته لأن يكون إنصافاً بينه وبينهم إذ هم قد عرضوا بنسبته إلى الافتراء على الله حين قالوا : { ائت بقرآن غير هذا } [ يونس : 15 ] ، وصرحوا بنفي أن يكون القرآن من عند الله ، فلما أقام الحجة عليهم بأن ذلك من عند الله وأنه ما يكون له أن يأتي به من تلقاء نفسه فُرع عليه أن المفتري على الله كذباً والمكذبين بآياته كلاهما أظلم الناس لا أحد أظلم منهما ، وذلك من مجاراة الخصم ليعثر ، يخيل إليه من الكلام أنه إنصاف بينهما فإذا حصحص المعنى وُجد انصبابه على الخصم وحده .
والتفريع صالح للمعنيين ، وهو تفريع على ما تقدم قبله مما تضمن أنهم أشركوا بالله وكذبوا بالقرآن .
ومحل ( أو ) على الوجهين هو التقسيم ، وهو إما تقسم أحوال ، وإما تقسم أنواع .
والاستفهام إنكاري . والظلم : هنا بمعنى الاعتداء . وإنما كان أحد الأمرين أشد الظلم لأنه اعتداء على الخالق بالكذب عليه وبتكذيب آياته .
وجملة : { إنه لا يفلح المجرمون } تذييل ، وموقعه يقتضي شمول عمومه للمذكورين في الكلام المذيَّل ( بفتح التحتية ) فيقتضي أن أولئك مجرمون ، وأنهم لا يفلحون .
والفلاح تقدم في قوله تعالى : { وأولئك هم المفلحون } في سورة [ البقرة : 5 ] .
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد ناظر إلى شمول عموم المجرمين للمخاطبين لأنهم ينكرون أن يكونوا من المجرمين .