التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا أَوۡ كَذَّبَ بِـَٔايَٰتِهِۦٓۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡمُجۡرِمُونَ} (17)

قوله : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح المجرمون } أي ليس من أحد أشد ظلما وعتوا وإجراما ممن يتقول على الله فيزعم أن الله أرسله وهو ليس كذلك ، فاختلق الكذب على الله أو افترى عليه باطلا أو كذب بشيء من آياته { إنه لا يفلح المجرمون } وهم الذين أجرموا بتلبسهم بالكفر والجحود واجتراحهم المعاصي ؛ فهم لا ينجحون يوم القيامة ، وليس لهم عند الله فلاح ولا نجاه .

ومن أظهر الأدلة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه مرسل من ربه وأن ما تلاه على الناس لهو الحق المنزل من رب العالمين ، وما تحمله الروايات العجاب عن هذيان مسيلمة الكذاب ، وما كان يندلق من فمه المتعثر الملتات من سقط الكلام وحشوه ، ومن خرافات سقيمة مصطنعة لا يهرفها غير الصبية والجاهلين والسفهاء في مجالس اللهو والعبث . لا جرم أن الفرق بين القرآن وما تقوله مسيلمة وافتراه كالفر ما بين الحق والباطل ، أو بين الصدق الناصع والزور الملفق المقبوح ، أو ما بين الضياء الأبلج في وضح النهار المتجلي والصريم الأسود في حنادس{[1952]} الليل المظلم . فقد قال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل{[1953]} الناس فكنت فيمن انجفل ، فلما رأيته عرفت أنه وجهه ليس بوجه رجل كذاب . قال : فكان أول ما سمعته يقول : ( يا أيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا بالليل والناس نيام ؛ تدخلون الجنة بسلام ) .

أما مسليمة فراح يهذي هذيان الأبله المتطفل وهو يفتري على الله الباطل ويتقول من الكلام الأخرق المهين ما يسخر منه السفهاء والبهاء من الناس . فكيف إذا ما قورن كلامه المتهافت الممجوج بكلمات الله العجيبة من قرآنه الفذ ؟ ! لا جرم أن القرآن تفوح من أحرفه الرفيقة العذاب ريح الإعجاز المذهل . وتتدفق من أسلوبه ونداوة أجراسه ونغمة كل ألوان الجمال والجلال والطلاوة بما يروع السامعين من أولي العقول والنباهة . ويستبين ذلك كله ونحن نستمع ونتدبر بعضا من آيات الكتاب الحكيم وهي تفيض من جرس الحروف وحلاوة النغم الرخي المستطاب ما يشيع في جو التلاوة ظلالا من الانفعال الغامر ، والبهر الجياش الهامر . وما ينشر في صدروه السامعين والمتدبرين أصداء نوراية يعز على الكلمات أن تكشف عن حقيقتها .

ومثال ذلك قوله تعالى : { لا أقسم بيوم القيامة 1 ولا أقسم بالنفس اللوامة 2 أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه 3 بلى قادرين على أن نسوي بنانه 4 بل يريد الإنسان ليفجر أمامه 5 يسئل أينا يوم القيامة 6 فإذا برق البصر 7 وخسف القمر 8 وجمع الشمس والقمر 9 يقول الإنسان يومئذ أين المفر } وغير ذلك من الأمثلة على روعة النظم القرآني وعلى عجيب أسلوبه المميز الباهر . فأين هذا الكلام المعجز الخارق من لاكم شائه ممتهن انتحله مسيلمة الكذاب ؛ فإذا هو غية السقم والانحدار ، وغاية السقوط في الدركات . ومن جملة ذلك قول مسيملة : يا ضفدع بنت ضفدعين ، نقي كم تنقين ، لا الماء تكدرين ، ولا الشارب تمنعين .

وقوله : لقد أنعم الله على الحبلى ، إذ أخرج منها نسمة ، تسعى من بين صفاق وحشا .

وقوله أيضا : الفيل ، وما أدراك ما الفيل ، له خرطوم طويل .

وقوله أيضا : والعاجنات عجنا . والخابزات خبزا . واللاقمات لقما . إهالة وسمنا . إن قريشا قوم يعتدون .

وذكر أن عمرو بن العاص وفد على مسيلمة ، وكان صديقا له في الجاهلية ، وكان عمرو لم يسلم بعد . فقال له مسيلمة : ويحك يا عمرو ماذا أنزل على صاحبكم –يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- في هذه المدة ؟ فقال عمرو : لقد سمعت أصحابه يقرأون سورة عظيمة قصيرة . فقال : وما هي ؟ فقال : { والعصر 1إن الإنسان لفي سخر } إلى آخر السورة . ففكر مسيلمة ساعة ثم قال : وأنا قد أنزل علي مثله . فقال : وما هو فقال : يا وبر يا وبر ، إنما أنت أذنان وصدر . وسائرك حفر نقر . كيف ترى يا عمرو ؟ فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب .

فإن هذا الكلام الملفق المصطنع لم يخف على عمرو بن العاص وهو مشرك خصيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إذ سخر منه واستقبحه واستهجنه غاية الاستهجان ؛ لفرط ركاكته في مبناه ، وبالغ تفاهته في معناه{[1954]} .


[1952]:حنادس، جمع حنجس، بالكسر، وهي الظلمة أو الليل شديد السواد. انظر المعجم الوسيط جـ 1 ص 202.
[1953]:انجفل: شرد ونفر. أو مضى وأسرع. أو انزعج وفزع. فهو جافل وجفول وجفال. انظر المعجم الوسيط جـ 1 ص 127.
[1954]:تفسير ابن كثير جـ 2 ص 410، 411 وفتح القدير جـ 2 ص 430.