ثم ختم - سبحانه - قصة نوح مع قومه فى هذه السورة ، بتلك الضراعة التى تضرع بها نوح - عليه السلام - بشأن ولده ، وبذلك الرد الحكيم الذى رد به الخالق - عز وجل - على نوح - عليه السلام ، وبتعقيب على القصة يدل على وحدانية الله - تعالى - ، وعلى صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يبلغه عن ربه قال - تعالى - :
{ وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي . . . }
المراد بالنداء فى قوله - سبحانه - : { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ . . . } الدعاء والضراعة إلى الله - تعالى - .
والجملة الكريمة معطوفة على ما قبلها .
أى : وبعد أن تخلف ابن نوح عليه السلام عن الركوب معه فى السفينة ، وقضى الأمر بهلاك الكافرين ونجاة المؤمنين . . تضرع نوح - عليه السلام - إلى ربه فقال فى استعطاف ورجاء :
يا رب ! إن ابنى " كنعان " { مِنْ أَهْلِي } فهو قطعة منى ، فأسألك أن ترحمه برحمتك { وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق } أى : وإن كل وعد تعده لعبادك هو الوعد الحق وأنت - يا ربى - قد وعدتنى بنجاة أهلى إلا من سبق عليه القول منهم ، لكنى فى هذا الموقف العصيب أطمع فى عفوك عن انبى وفى رحمتك له .
وقوله : { وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } أى : وأنت يا إلهى - لا راد لما تحكم به ، ولا معقب لحكمك ، وحكمك هو الحق والعدل ، وهو المنزه عن الخطأ والمحاباة ، لأنه صادر عن كمال العلم والحكمة .
واكتفى نوح - عليه السلام - بأن يقول : { رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } دون أن يصرح بمطلوبه وهو نجاة ابنه تأدباً مع الله - تعالى - وحياء منه - سبحانه - واعتقاداً منه بأنه - سبحانه - عليم بما يريده وخبر بما يجول فى نفسه .
وهذا لو من الأدب السامى ، سلكه الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام - فى مخاطبتهم لربهم - عز وجل - ومن أولى منهم بذلك ؟ ! !
ولعل نوحا - عليه السلام - عندما تضرع إلى ربه - سبحانه - بهذا الدعاء لم يكن يعلم أن طلب الرحمة أو النجاة لابنه الكافر ممنوع ، فكان حاله فى ذلك كحال النبى - صلى الله عليه وسلم - عندما قال لعمه أبى طالب : " لأستغفرن لك ما لم أنه عن ذلك " واستمر يستغفر له إلى أن نزل قوله - تعالى - { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى . . . } وقال الشيخ القاسمى : وإنما قال نوح ذلك - أى : رب إن أبنى من أهلى . . ألخ - لفهمه - من الأهل ذوى القرابة الصورية ، والرحمة النسبية ، وغفل - لفرط التأسف على ابنه - عن استثنائه - تعالى - بقوله : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } ولم يتحقق أن ابنه هو الذى سبق عليه القول ، فاستعطف ربه بالاسترحام ، وعرض بقوله { وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين } إلى أن العالم العادل الحكيم لا يخلف وعده .
والآن وقد هدأت العاصفة ، وسكن الهول ، واستوت على الجودي . الآن تستيقظ في نفس نوح لهفة الوالد المفجوع :
( ونادى نوح ربه ، فقال : رب إن ابني من أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين )
رب إن ابني من أهلي ، وقد وعدتني بنجاة أهلي ، وإن وعدك الحق ، وأنت أحكم الحاكمين . فلا تقضي إلا عن حكمة وتدبير . .
قالها يستنجز ربه وعده في نجاة أهله ، ويستنجزه حكمته في الوعد والقضاء .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَادَى نُوحٌ رّبّهُ فَقَالَ رَبّ إِنّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنّ وَعْدَكَ الْحَقّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ونادى نوح ربه ، فقال : ربّ إنك وعدتني أن تنجيني من الغرق والهلاك وأهلي ، وقد هلك ابني ، وابني من أهلي . وَإنّ وَعْدَكَ الحَقّ الذي لا خلف له . وأنْتَ أحكَمُ الحاكِمينَ بالحق ، فاحكم لي بأن تفيَ بما وعدتني من أن تنجيَ لي أهلي وترجعَ إليّ ابني . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وأنْتَ أحْكَمُ الحاكِمينَ قال : أحكم الحاكمين بالحقّ .
هذه جملة معطوفة على التي قبلها دون ترتيب ، وذلك أن هذه القصة كانت في أول ما ركب نوح في السفينة ؛ ويظهر من كلام الطبري أن ذلك كان بعد غرق الابن ، وهو محتمل ، والأول أليق .
وهذه الآية احتجاج{[6372]} من نوح عليه السلام ، وذلك أن الله أمره بحمل أهله وابنه من أهله فينبغي أن يحمل ، فأظهر الله له أن المراد من آمن من الأهل ، ثم حسن المخاطبة بقوله : { وإن وعدك الحق } ، وبقوله : { وأنت أحكم الحاكمين } ، فإن هذه الأقوال معينة في حجته ، وهذه الآية تقتضي أن نوحاً عليه السلام ظن أن ابنه مؤمن ، وذلك أشد الاحتمالين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ونادى نوح ربه}، يعني دعا نوح ربه، فيها تقديم، {فقال رب إن ابني من أهلي} الذين وعدتني أن تنجيهم من الغرق، {وإن وعدك الحق} يعني الصدق، ولا خلاف له في النجاة، {وأنت أحكم الحاكمين} يعني خير الحاكمين لا تجور في القضاء...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ونادى نوح ربه، فقال: ربّ إنك وعدتني أن تنجيني من الغرق والهلاك وأهلي، وقد هلك ابني، وابني من أهلي. "وَإنّ وَعْدَكَ الحَقّ "الذي لا خلف له، "وأنْتَ أحكَمُ الحاكِمينَ" بالحق، فاحكم لي بأن تفيَ بما وعدتني من أن تنجيَ لي أهلي وترجعَ إليّ ابني...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} أي بعض أهلي... {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} وأن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به، وقد وعدتني أن تنجي أهلي، فما بال ولدي؟ {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} أي أعلم الحكام وأعدلهم؛ لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه جملة معطوفة على التي قبلها دون ترتيب، وذلك أن هذه القصة كانت في أول ما ركب نوح في السفينة؛ ويظهر من كلام الطبري أن ذلك كان بعد غرق الابن، وهو محتمل، والأول أليق...
وهذه الآية احتجاج من نوح عليه السلام، وذلك أن الله أمره بحمل أهله وابنه من أهله فينبغي أن يحمل، فأظهر الله له أن المراد من آمن من الأهل، ثم حسن المخاطبة بقوله: {وإن وعدك الحق}، وبقوله: {وأنت أحكم الحاكمين}، فإن هذه الأقوال معينة في حجته، وهذه الآية تقتضي أن نوحاً عليه السلام ظن أن ابنه مؤمن، وذلك أشد الاحتمالين...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذا سؤال استعلام وكشف من نوح، عليه السلام، عن حال ولده الذي غرق، {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} أي: وقد وعدتني بنجاة أهلي، ووعدُك الحق الذي لا يخلف، فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين؟
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان الاستثناء من أهله في قوله: {إلا من سبق عليه القول} يجوز أن يراد به امرأته فقط، فتكون نجاة ابنه جائزة، وكان ما عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من فرط الشفقة على الخلق لا سيما الأقارب يحملهم على السعي في صلاحهم ما كان لذلك وجه كما تقدم مثل ذلك في قوله تعالى {إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم} [التوبة: 80] لأن أجنحة الخلق كسيرة وأيديهم قصيرة وأمرهم ضعيف وحالهم رث، فأدنى هوان يورثهم الخسران، وأما جناب الحق ففسيح وشأنه عظيم وأمره عليّ، فلا يلحقه نقص بوجه ولا يدانيه ضرر ولا يعتري أمره وهن، لما كان ذلك كذلك، سأل نوح عليه السلام نجاة ولده كما أخبر عنه تعالى في قوله: {ونادى نوح ربه} أي الذي عوده بالإحسان الجزيل، ودل سبحانه بالعطف بالفاء دون أن يأتي بالاستئناف المفسر للنداء على أن ما ذكر هنا من نداء نوح عليه السلام بعض ندائه وأن هذا المذكور مرتب معقب على شيء منه سابق عليه أقربه أن يكون ما أرشده إليه سبحانه في سورة المؤمنين ويشعر به قوله تعالى بعد هذا جواباً له {يا نوح اهبط بسلام منا} فيكون تقدير الكلام قال: رب أنزلني منزلاً مباركاً -وما قدر له من الكلام {فقال} أي عقبة لما حمله على ذلك من رحمة النبوة وشفقة الأبوة وسجية البشر متعرضاً لنفحات الرحمة وعواطف العفو؛ أو الفاء تفصيل لمجمل "نادى "مثل ما في: توضأ فغسل {رب إن ابني} أي الذي غرق {من أهلي} أي وقد أمرتني بحمل أهلي، وذلك الأمر محتمل للإشارة إلى إرادة نجاتهم {وإن وعدك الحق} أي الكامل في نجاتهم إلا من سبق عليه القول، وقد علمت ذلك في المرأة الكافرة {وأنت أحكم الحاكمين} لأنك أعلمهم، ومن كان أعلم كان أحكم فتعلم أن قولك {إلا من سبق عليه القول} يصح باستثنائها وحدها، فإن كان ابني ممن نجا فأتني به؛ وإن كان هذا الدعاء عند حيلولة الموج بينهما فالمعنى: فلا تهلكه...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
إعلام بأن نوحا حملته شفقة الأبوة، وتعطف الرحم والقرابة، على طلب نجاته، لشدة تعلقه به، واهتمامه بأمره. وقد راعى مع ذلك أدبي الحضرة، وحسن السؤال، فقال: {وإن وعدك الحق}، ولم يقل: لا تخلف وعدك بإنجاء أهلي، وإنما قال ذلك لفهمه من الأهل ذوي القرابة الصورية، والرحم النسبية، وغفل، لفرط التأسف على ابنه، عن استثنائه تعالى بقوله: {إلا من سبق عليه القول}، ولم يتحقق أن ابنه هو الذي سبق عليه القول، فاستعطف ربه بالاسترحام، وعرض بقوله: {وأنت أحكم الحاكمين} إلى أن العالم العادل والحكيم لا يخلف وعده...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45) قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين (46) قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين (47)] هذه الآيات الثلاث في مسألة فرعية من قصة نوح لا من صلب القصة وأصول وقائعها ولكنها تدخل في العقائد وأصول الدين من بابين اثنين لا من باب واحد، أحدهما: باب الإلهيات بما فيها من حكم الله وعدله وسنته في خلقه بلا محاباة لولي ولا نبي، وثانيهما: اجتهاد الأنبياء وجواز الخطأ فيه وعده ذنبا عليهم بالإضافة إلى مقامه ومعرفتهم بربهم- وهي ما عرض له عليه السلام من الاجتهاد في أمر ابنه الذي تخلف عن السفينة وكان من المغرقين كما مر في الآية 43 وكان ظاهر الترتيب أن تجعل بعدها فتكون 44 ووجه هذا التقديم والتأخير بينهما الذي اقتضته البلاغة العليا، والحكمة البالغة المثلى، هو أن قدمت الآية المتممة لأصل القصة المبينة لوجه العبرة فيها بأروع التعبير، الذي يقرع أبواب القلوب بأبلغ قوارع التأثير، فكان اتصالها بها كاتصال الموجب بالسالب من الكهربائية التي يتولد به البرق الذي يخطف الأبصار، والصاعقة التي تمحق ما تصيبه من الأشياء والأشخاص. فالآية الثالثة والأربعون تصور لقارئها وسامعها نكبة الطوفان بأعظم الصور هولا ورعبا ودهشا تطيش لها الألباب، وتحار في تصور كشفها وما يؤول إليه أمرها الأخيلة والأفكار، فتتلوها الآية الرابعة والأربعون فتكون الفاصلة بكشف ذلك الكرب العظيم بكلمتين وجيزتين من كلمات التكوين الإلهي قضي بهما الأمر بنجاة المؤمنين الصالحين، وهلاك المشركين الظالمين، ولو فصل بينهما بهذه الآيات الثلاث [45-47] اللواتي وضعن بعدهما، لضاع تسعة أعشار بلاغتهما وتأثيرهما في العبرة والموعظة المقصودة من القصة كلها، التي كانت كاشتعال الكهرباء مظهرا لسرعة مشيئته تعالى في كشف الكرب، فكان منها نور ظهرت به رحمته في إنجاء السفينة وأهلها المؤمنين، وصاعقة محقت جميع الظالمين.
{ونادى نوح ربه} في إثر ندائه لابنه الذي تخلف عن السفينة ودعاه إليها فلم يستجب {فقال رب إن ابني من أهلي} هذا تفسير لنادى، أي فكان نداؤه أن قال يا رب إن ابني هذا من أهلي الذين وعدتني بنجاتهم إذ أمرتني بحملهم في السفينة {وإن وعدك الحق} الذي لا خلف فيه وهذا منه {وأنت أحكم الحاكمين} أي أحق من كل من يتصور منهم الحكم وأحسنهم وخيرهم حكما كما قال تعالى: {ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [المائدة: 50] وقال: {وهو خير الحاكمين} [الأعراف: 87] وذلك أن حكمه تعالى لا يكون إلا بالحق والعدل، لأنه يصدر عن كمال العلم والعدل والحكمة، فلا يعرض له الخطأ ولا المحاباة، ولا الحيف والظلم، وحكمه تعالى يطلق على ما يشرعه من الأحكام، وعلى ما ينفذه في عباده من جزاء على الأعمال، ومراد نوح بهذا أن ينجي ابنه الذي تخلف عن السفينة بعد أن دعاه إليها فامتنع معللا نفسه بأن يأوي إلى جبل يعتصم به من الغرق ولم يقتنع بقوله له {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} [هود: 43] فالمعقول أن الدعاء وقع بعد هذه المحاورة مع ابنه وقبل أن يحول بينهما الموج...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} أي: وقد قلت لي: ف {احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} ولن تخلف ما وعدتني به. لعله عليه الصلاة والسلام، حملته الشفقة، وأن الله وعده بنجاة أهله، ظن أن الوعد لعمومهم، من آمن، ومن لم يؤمن، فلذلك دعا ربه بذلك الدعاء، ومع هذا، ففوض الأمر لحكمة الله البالغة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
موقع الآية يقتضي أنّ نداء نوح عليه السّلام هذا كان بعد استواء السفينة على الجوديّ نداءً دَعاه إليه داعي الشفقة فأراد به نفع ابنه في الآخرة بعد اليأس من نجاته في الدّنيا، لأنّ الله أعلمه أنّه لا نجاة إلاّ للّذين يركبون السّفينة، ولأنّ نوحاً عليه السّلام لمّا دعا ابنه إلى ركوب السّفينة فأبى وجرت السفينة قد علم أنّه لا وسيلة إلى نجاته فكيف يسألها من الله فتعيّن أنّه سأل له المغفرة، ويدلّ لذلك قوله تعالى: {فلا تسألنّي ما ليس لك به علم} كما سيأتي.. والنّداء هنا نداء دعاء فكأنّه قيل: ودعا نوح ربّه، لأنّ الدعاء يصدّر بالنّداء غالباً، والتّعبير عن الجلالة بوصف الربّ مضافاً إلى نوح عليه السلام تشريف لنوح وإيماء إلى رأفة الله به وأن نهيه الوارد بعده نهيُ عتاب. وجملة {فقال ربّ إنّ ابني من أهلي} بيان للنّداء، ومقتضى الظّاهر أنْ لا تعطف بفاء التفريع كما لم يعطف البيان في قوله تعالى: {إذْ نادى ربّه نداءً خفيّاً قال ربّ إنّي وهن العظم مني} [مريم: 3، 4]، وخولف ذلك هنا. ووجّه في « الكشاف» اقترانه بالفاء بأنّ فعل {نادى} مستعمل في إرادة النداء، أي مثل فعل (قمتم) في قوله تعالى: {يأيهَا الّذينَ آمنوا إذَا قمْتم إلى الصّلاة فَاغْسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] الآية، يريد أن ذلك إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر فإنّ وجود الفاء في الجملة التي هي بيان للنداء قرينة على أن فعل {نادى} مستعار لمعنى إرادة النداء، أي أراد نداءَ ربه فأعقب إرادته بإصدار النداء، وهذا إشارة إلى أنه أراد النداء فتردّد في الإقدام عليه لِما علم من قوله تعالى: {إلا من سبق عليه القول} [هود: 40] فلم يطل تردّده لمّا غلبته الشفقة على ابنه فأقدم على نداء ربه، ولذلك قدم الاعتذار بقوله: {إنّ ابني من أهلي}. فقوله: {إن ابني من أهلي} خبر مستعمل في الاعتذار والتمهيد لأنّه يريد أن يسأل سؤالاً لا يدري قبوله ولكنّه اقتحمه لأن المسؤول له من أهله فله عذر الشفقة عليه. وتأكيد الخبر ب {إنّ} للاهتمام به. وكذلك جملة {وإنّ وعدك الحق} خبر مستعمل في لازم الفائدة. وهو أنّه يعلم أن وعد الله حق. والمراد بالوعد ما في قوله تعالى: {إلاّ من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} [المؤمنون: 37] إذ أفاد ذلك أن بعض أهله قد سبق من الله تقدير بأنّه لا يركب السفينة. وهذا الموصول متعيّن لكونه صادقاً على ابنه إذ ليس غيره من أهله طَلب منه ركوب السفينة وأبى، وأنّ من سبق علم الله بأنه لا يركب السفينة من الناس فهو ظالم، أي كافر، وأنه مغرق، فكان عدم ركوبه السفينة وغرقه أمارة أنه كافر. فالمعنى: أن نوحاً عليه السّلام لا يجهل أنّ ابنه كافر، ولذلك فسؤال المغفرة له عن علم بأنه كافر، ولكنّه يطمع لعل الله أن يعفو عنه لأجل قرابته به، فسؤاله له المغفرة بمنزلة الشفاعة له عند الله تعالى، وذلك أخذ بأقصى دواعي الشفقة والرحمة بابنه، وقرينة ذلك كله قوله: {وأنت أحكم الحاكمين} المفيد أنه لا رادّ لما حكم به وقضاه، وأنه لا دالة عليه لأحد من خلقه، ولكنه مقام تضرّع وسؤال ما ليس بمحال. وقد كان نوح عليه السّلام غيرَ منهيّ عن ذلك، ولم يكن تقرر في شرعه العلم بعدم المغفرة للكافرين، فكان حال نوح عليه السّلام كحال النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي طالب « لأستغفرنّ لك ما لم أُنْهَ عنك» قَبل أن ينزل قوله تعالى: {ما كان للنبيء والذين آمنوا أن يسْتغَفروا للمشركين} [التوبة: 113] الآية. والاقتصار على هذه الجمل الثلاث في مقام الدعاء تعريض بالمطلوب لأنه لم يذكره، وذلك ضرب من ضروب التأدب والتردد في الإقدام على المسؤول استغناء بعلم المسؤول كأنّه يقول: أسألك أم أترك... ومعنى {أحكم الحاكمين} أشدهم حكْماً. واسم التفضيل يتعلق بماهية الفعل، فيفيد أن حكمه لا يجورُ وأنّه لا يبطله أحد...