ثم أكد - سبحانه - ما سبق أن بينه من أن دفع بغى الباغى أمر محمود ، فقال تعالى { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } .
واللام فى قوله { وَلَمَنِ انتصر } هى لام الابتداء ، وقوله { بَعْدَ ظُلْمِهِ } مصدر مضاف لمفعوله و " من " شرطية ، وجوابها { فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } والمراد بالسبيل : المؤاخذة والحرج . .
أى : أن من انتصر لدينه وعرضه بعد ظلم الظالم له ، فأولئك الذين يفعلون ذلك ، لا يؤاخذون من أحد ، ولا يلامون من غيرهم ، لأنهم باشروا حقهم الذى شرعه الله - تعالى - لهم ، وهو مقابلة السيئة بمثلها .
( ولمن انتصر بعد ظلمه ، فأولئك ما عليهم من سبيل . إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ، ويبغون في الأرض بغير الحق . أولئك لهم عذاب أليم ) . .
فالذي ينتصر بعد ظلمه ، ويجزي السيئة بالسيئة ، ولا يعتدي ، ليس عليه من جناح . وهو يزاول حقه المشروع . فما لأحد عليه من سلطان . ولا يجوز أن يقف في طريقه أحد . إنما الذين يجب الوقوف في طريقهم هم الذين يظلمون الناس ، ويبغون في الأرض بغير الحق . فإن الأرض لا تصلح وفيها ظالم لا يقف له الناس ليكفوه ويمنعوه من ظلمه ؛ وفيها باغ يجور ولا يجد من يقاومه ويقتص منه .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلََئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ * إِنّمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ أُوْلََئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولمن انتصر ممن ظلمه من بعد ظلمه إياه فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ يقول : فأولئك المنتصرون منهم لا سبيل للمنتصر منهم عليهم بعقوبة ولا أذى ، لأنهم انتصروا منهم بحقّ ، ومن أخذ حقه ممن وجب ذلك له عليه ، ولم يتعدّ ، لم يظلم ، فيكون عليه سبيل .
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك ، فقال بعضهم : عني به كلّ منتصر ممن أساء إليه ، مسلما كان المسيء أو كافرا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا معاذ ، قال : حدثنا ابن عون ، قال : كنت أسأل عن الانتصار وَلَمن انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ . . . الاَية ، فحدثني عليّ بن زيد بن جدعان ، عن أمّ محمد امرأة أبيه ، قال ابن عون : زعموا أنها كانت تدخل على أمّ المؤمنين قالت : قالت أمّ المؤمنين : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندنا زينب بنت جحش ، فجعل يصنع بيده شيئا ، ولم يفطن لها ، فقلت بيدي حتى فطّنته لها ، فأمسك ، وأقبلت زينب تقحم لعائشة ، فنهاها ، فأبت أن تنتهي ، فقال لعائشة : «سُبيها » فسبتها وغلبتها وانطلقت زينب فأتت عليا ، فقالت : إن عائشة تقع بكم وتفعل بكم ، فجاءت فاطمة ، فقال لها : «إنها حِبّة أبيك ورَبّ الكَعْبَة » ، فانصرفت وقالت لعليّ : إني قلت له كذا وكذا ، فقال كذا وكذا قال : وجاء عليّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فكلّمه في ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَلَمَنِ انْتَصَر بَعْدَ ظُلْمِهِ . . . الاَية ، قال : هذا في الخمش يكون بين الناس .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ قال : هذا فيما يكون بين الناس من القصاص ، فأما لو ظلمك رجل لم يحلّ لك أن تظلمه .
وقال آخرون : بل عُنِي به الانتصار من أهل الشرك ، وقال : هذا منسوخ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَلَمَنِ انْتَصَر بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ قال : لمن انتصر بعد ظلمه من المؤمنين انتصر من المشركين وهذا قد نسخ ، وليس هذا في أهل الإسلام ، ولكن في أهل الإسلام الذي قال الله تبارك وتعالى : ادْفَعْ بالّتِي هِيَ أحْسَنُ ، فإذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كأنّهُ وَلِيّ حَمِيمٌ .
والصواب من القول أن يقال : إنه معنيّ به كلّ منتصر من ظالمه ، وأن الاَية محكمة غير منسوخة للعلة التي بينت في الاَية قبلها .
واللام في قوله : { لمن انتصر } لام التقاء القسم{[10164]} .
وقوله : { من سبيل } يريد { من سبيل } حرج ولا سبيل حكم ، وهذا إبلاغ في إباحة الانتصار ، والخلاف فيه هل هو بين المؤمن والمشرك ، أو بين المؤمنين على ما تقدم .
يجوز أن تكون عطفاً على جملة { فمن عفا وأصلح } [ الشورى : 40 ] فيكون عذراً للذين لم يعفوا ، ويجوز أنها عطف على جملة { هم ينتصرون } [ الشورى : 39 ] وما بين ذلك اعتراض كما علمت ، فالجملة : إمّا مرتبطة بغرض انتصار المسلم على ظالمه من المسلمين تكملة لجملة { فمن عفا وأصلح فأجره على الله } [ الشورى : 40 ] ، وإمّا مرتبطة بغرض انتصار المؤمنين من بغْي المشركين عليهم ، وهو الانتصار بالدفاع سواء كان دفاع جماعات وهو الحرب فيكون هذا تمهيداً للإذن بالقتال الذي شُرع من بعد ، أم دفاعَ الآحاد أن تمكنوا منه فقد صار المسلمون بمكة يومئذٍ ذوي قوة يستطيعون بها الدفع عن أنفسهم آحاداً كما قيل في عزّ الإسلام بإسلام عمر بن الخطاب .
واللام في { ولمن انتصر } موطئة للقسم ، و ( مَن ) شرطية ، أو اللام لام ابتداء و ( من ) موصولة . وإضافة { ظلمه } من إضافة المصدر إلى مفعوله ، أي بعد كَونه مظلوماً .
ومعنى { بعد ظلمه } التنبيه على أن هذا الانتصار بعد أن تحقق أنهم ظُلموا : فإمّا في غير الحروب فمن يتوقع أن أحداً سيعتدي عليه ليس له أن يبادر أحداً بأذى قبل أن يشرعَ في الاعتداء عليه ويقول : ظننت أنه يعتدي عليَّ فبادرتُه بالأذى اتقاء لاعتدائه المتوقع ، لأن مثل هذا يثير التهارج والفساد ، فنبه الله المسلمين على تجنبه مع عدوِّهم إن لم تكن بينهم حرب .
وأما حال المسلمين بعضهم مع بعض فليس من غرض الآية ، فلو أن أحداً ساوره أحد ببادىء عَمل من البغي فهو مرخّص له أن يدافعه عن إيصال بغيه إليه قبل أن يتمكن منه ولا يمهله حتى يوقع به ما عسى أن لا يتداركه فاعلُه من بعد ، وذلك مما يرجع إلى قاعدة أن ما قارب الشيء يُعطَى حكم حصوله ، أي مع غلبة ظنه بسبب ظهور بوادره ، وهو ما قال فيه الفقهاء : « يجوز دفع صائل بما أمكن » .
ومحل هذه الرخصة هو الحالات التي يتوقع فيها حصول الضرّ حصولاً يتعذر أو يعسر رفعه وتداركه . ومعلوم أن محلها هو الحالة التي لم يفت فيها فعل البغي ، فأما إن فات فإن حق الجزاء عليه يكون بالرفع للحاكم ولا يتولى المظلوم الانتصاف بنفسه ، وليس ذلك مما شملته هذه الآية ولكنه مستقرى من تصاريف الشريعة ومقاصدها ففرضناه هنا لمجرد بيان مقصد الآية لا لبيان معناها .
والمراد بالسبيل موجب المؤاخذة بالّلائمة بين القبائل واللمزِ بالعُدوان والتبعة في الآخرة على الفساد في الأرض بقتل المسالمين ، سُمي بذلك سبيلاً على وجه الاستعارة لأنه أشبه الطريقَ في إيصاله إلى المطلوب ، وكثر إطلاق ذلك حتى ساوى الحقيقة .
والفاء في قوله : { فأولئك ما عليهم من سبيل } فاء جواب الشرط فإن جعلتَ لام { لمن انتصر } لام الابتداء فهو ظاهر ، وإن جعلت اللام موطئة للقسم كان اقتران ما بعدها بفاء الجواب ترجيحاً للشرط على القسَم عند اجتماعهما ، والأعرفُ أن يرجّح الأول منهما فيعطى جوابَه ويحذف جواب الثاني ، وقد يقال : إن ذلك في القسَم الصريح دون القسم المدلول باللام الموطئة .
وجيء باسم الإشارة في صدر جواب الشرط لتمييز الفريق المذكور أتمَّ تمييز ، وللتنبيه على أن سبب عدم مؤاخذتهم هو أنهم انتصروا بعد أن ظُلموا ولم يبدأوا الناس بالبغي .