نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ} (2)

لما كان ختام التي قبلها إثبات الكمال لله بصدقه في وعده ووعيده بإنزال كل فريق في داره التي أعدها له ، ثبت أن الكتاب الذي فيه ذلك منه ، وأنه تام العزة كامل العلم جامع لجميع صفات الكمال فقال : { تنزيل الكتاب } أي الجامع من الحدود والأحكام والمعارف والاكرام لكل ما يحتاج إليه بإنزاله بالتدريج على حسب المصالح والتقريب للأفهام الجامدة القاصرة ، والتدريب للألباب السائرة في جو المعاني والطائرة { من الله } أي الجامع لجميع صفات الكمال . ولما كان النظر هنا من بين جميع الصفات إلى العزة والعلم أكثر ، لأجل أن المقام لإثبات الصدق وعداً ووعيداً قال : { العزيز العليم * } .

وقال الإمام أبو جعفر ابن الزبير : لما افتتح سبحانه سورة الزمر بالإخلاص وذكر سببه والحامل بإذن الله عليه وهو الكتاب ، وأعقب ذلك بالتعويض بذكر من بنيت على وصفهم سورة ص وتتابعت الآي في ذلك الغرض إلى توبيخهم بما ضربه سبحانه من المثل الموضح في قوله { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلماً لرجل } ووصف الشركاء بالمشاكسة إذ بذلك الغرض يتضح عدم استمرار مراد لأحدهم ، وذكر قبح اعتذار لهم بقولهم{ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى }[ الزمر : 3 ] ثم أعقب تعالى بالإعلام بقهره وعزته حتى لا يتخبل مخذول شذوذ أمر عن يده وقهره ، فقال الله تعالى{ أليس الله بكاف عبده }- إلى قوله :{ أليس الله بعزيز ذي انتقام }[ الزمر : 37 ] ثم أتبع ذلك بحال أندادهم من أنها لا تضر ولا تنفع فقال{ قل أفرءيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته }[ الزمر : 38 ] ثم أتبع هذا بما يناسبه من شواهد عزته فقال{ قل لله الشفاعة جميعاً }[ الزمر : 44 ] { قل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة } { أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لما يشاء ويقدر } { الله خالق كل شيء } { له مقاليد السماوات والأرض } ثم عنفهم وقرَّعهم بجهلهم فقال تعالى { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } ثم قال تعالى { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } ثم اتبع تعالى - ذلك بذكر آثار العزة والقهر فذكر النفخ في الصور للصعق ثم نفخة القيام والجزاء ومصير الفريقين ، فتبارك المتفرد بالعزة والقهر ، فلما انطوت هذه الآي من آثار عزته وقهره على ما أشير إلى بعضه ، أعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى : { حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } فذكر من أسمائه سبحانه هذين الاسمين العظيمين تنبيهاً على انفراده بموجبهما وأنه العزيز الحق القاهر للخلق لعلمه تعالى بأوجه الحكمة التي خفيت عن الخلق ما أخر الجزاء الحتم للدار الآخرة ، وجعل الدنيا دار ابتلاء واختبار ، مع قهره للكل في الدارين معاً ، وكونهم غير خارجين عن ملكه وقهره ، ثم قال تعالى { غافر الذنب وقابل التوب } تأنيساً لمن استجاب بحمده ، وأناب بلطفه ، وجرياً على حكم سبقية الرحمة وتغليبها ، ثم قال { شديد العقاب ذي الطول } ليأخذ المؤمن بلازم عبوديته من الخوف والرجاء ، واكتنف قوله { شديد العقاب } بقوله { غافر الذنب وقابل التوب } وقوله { ذي الطول } وأشار سبحانه بقوله - { فلا يغررك تقلبهم في البلاد } - إلى قوله قبل { وأورثنا الأرض } وكأنه في تقدير : إذا كانت العاقبة لك ولأتباعك فلا عليك من تقلبهم في البلاد ، ثم بين تعالى أن حالهم في هذا كحال الأمم قبلهم ، وجدالهم في الآيات كجدالهم ، وأن ذلك لما حق عليهم من كلمة العذاب ، وسبق لهم في أم الكتاب - انتهى .