مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{تَنزِيلُ ٱلۡكِتَٰبِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡعَلِيمِ} (2)

وأما قوله { من الله } فاعلم أنه لما ذكر أن { حم * تنزيل الكتاب } وجب بيان أن المنزل من هو ؟ فقال : { من الله } ثم بين أن الله تعالى موصوف بصفات الجلال وسمات العظمة ليصير ذلك حاملا على التشمير عن ساق الجد عند الاستماع وزجره عن التهاون والتواني فيه ، فبين أن المنزل هو { الله العزيز العليم } .

واعلم أن الناس اختلفوا في أن العلم بالله ما هو ؟ فقال جمع عظيم ، أنه العلم بكونه قادرا وبعده العالم بكونه عالما ، إذا عرفت هذا فنقول { العزيز } له تفسيران ( أحدهما ) الغالب فيكون معناه القادر الذي لا يساويه أحد في القدرة ( والثاني ) الذي لا مثل له ، ولا يجوز أن يكون المراد بالعزيز هنا القادر ، لأن قوله تعالى : { الله } يدل على كونه قادرا ، فوجب حمل { العزيز } على المعنى الثاني وهو الذي لا يوجد له مثل ، وما كان كذلك وجب أن لا يكون جسما ، والذي لا يكون جسما يكون منزها عن الشهوة والنفرة ، والذي يكون كذلك يكون منزها عن الحاجة . وأما { العليم } فهو مبالغة في العلم ، والمبالغة التامة إنما تتحقق عند كونه تعالى عالما بكل المعلومات ، فقوله { من الله العزيز العليم } يرجع معناه إلى أن هذا الكتاب تنزيل من القادر المطلق ، الغني المطلق ، العالم المطلق ، ومن كان كذلك كان عالما بوجوه المصالح والمفاسد ، وكان عالما بكونه غنيا عن جر المصالح ودفع المفاسد ، ومن كان كذلك كان رحيما جوادا ، وكانت أفعاله حكمة وصوابا منزهة عن القبيح والباطل ، فكأنه سبحانه إنما ذكر عقيب قوله { تنزيل } هذه الأسماء الثلاثة لكونها دالة على أن أفعاله سبحانه حكمة وصواب ، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون هذا التنزيل حقا وصوابا ، وقيل الفائدة في ذكر { العزيز العليم } أمران ( أحدهما ) أنه بقدرته وعلمه أنزل القرآن على هذا الحد الذي يتضمن المصالح والإعجاز ، ولولا كونه عزيزا عليما لما صح ذلك ( والثاني ) أنه تكفل بحفظه وبعموم التكليف فيه وظهوره إلى حين انقطاع التكليف ، وذلك لا يتم إلا بكونه عزيزا لا يغلب وبكونه عليما لا يخفى عليه شيء .