التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{خَٰلِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنۡهُمُ ٱلۡعَذَابُ وَلَا هُمۡ يُنظَرُونَ} (88)

{ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( 86 ) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ( 87 ) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ ( 88 ) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( 89 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ ( 90 ) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ ( 1 ) افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ ( 91 ) } [ 86 91 ] .

عبارة الآيات واضحة . وقد تضمنت تنديدا بالذين كفروا بعد أن آمنوا بالنبي ورأوا الدلائل على ذلك وشهدوا بصدق ما جاء به ، وتقريرا بظلمهم وعدم إمكان حصولهم على توفيق الله وهداه واستحقاقهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين وخلودهم في جهنم إلا من تاب منهم وسار في طريق الصلاح ، وتقريرا بأن الله لن يقبل توبة من كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفرا ، ولن يقبل من الذين كفروا وماتوا على كفرهم فدية ولو كانت ملء الأرض ذهبا . فهؤلاء وأولئك لهم العذاب الأليم . ولن يكون لهم ناصر من الله .

تعليق على الآية

{ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ . . . } إلخ

والآيات التالية لها إلى آخر الآية [ 91 ]

لقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآيات . منها أن جماعة من المسلمين منهم الحرث بن سويد ارتدوا ولحقوا بالمشركين فأنزل الله فيهم الآيات الثلاث الأولى ثم ندم الحرث فتاب وعاد إلى الإسلام فأنزل الله الرابعة وبقي رفاقه مصرين على الكفر ، فأنزل الله فيهم الآيتين الخامسة والسادسة . ومنها أن الآيات الثلاث نزلت في رجل آمن ثم تنصر ولحق بالشام . وأنه تاب وعاد فأنزل الله الرابعة . ومنها أنها نزلت في أهل الكتاب الذين رأوا نعت النبي في كتبهم وعرفوا أن رسالته حق فلما بعث كفروا به . ومنها أن المعني بهذا هم اليهود بخاصة . وهم الذين ذكر خبر موقفهم في الآية [ 89 ] من سورة البقرة ، ومنها أن جملة { ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا } عنت اليهود الذين كفروا بعيسى ثم بمحمد عليهما السلام . وليس من شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح إلا خبر ارتداد الحرث ثم إسلامه ؛ حيث أورد ابن كثير الخبر برواية النسائي والحاكم وابن حبان عن ابن عباس .

وفحوى الآيات ينطبق على هذه الرواية ورفاقه على الوجه الذي أوردناه في إحدى الروايات أكثر من انطباقها على الروايات التي تذكر أهل الكتاب أو اليهود بالصيغة المروية ؛ لأن الآيات تعني أناسا آمنوا ثم كفروا ومنهم من تاب ومنهم من أصرّ على كفره . غير أن رواية الحرث ورفاقه تقتضي أن تكون الآيات منفصلة ومستقلة عن السياق ، وأن تكون نزلت مجزأة في حين أنها تبدو وحدة منسجمة أولا وأن الآيات السابقة واللاحقة لها في حق اليهود ثانيا ؛ حيث يتبادر أكثر أن تكون الآيات جزءا من السياق وفي حق اليهود بخاصة وأن الإشارة إلى إيمانهم ثم كفرهم قصدت ما ذكرته الآية [ 72 ] من هذه السورة التي حكت تواصي اليهود بالإيمان بصحة نبوة النبي وما أنزل عليه وجه النهار والكفر آخره حتى يشككوا المسلمين في دينهم . فاليهود على ما تلهمه الآيات في ضوء هذا الشرح نفذوا مؤامرتهم فتظاهروا بالإيمان ثم أظهروا الشك وتراجعوا فاستحقوا الحملة العنيفة في الآيات الثلاث مع فتح باب التوبة في الآية الرابعة وإنذار من لا يغتنم الفرصة ويظل مصرا على كفره والإنذار الشديد الذي تضمنته الآيتان الخامسة والسادسة . ومثل هذا تكرر في القرآن . ولا نريد بهذا أن ننفي رواية حادثة الحرث ورفاقه . وقد جاءت الآيات مطابقة لصورة هذه الحادثة فالتبس الأمر على الرواة وظنوا أنها فيهم . ولا نستعبد أن يكون اليهود استطاعوا بمكرهم ومؤامرتهم أن يؤثروا كما توقعوا على بعض المسلمين فارتدوا ، ثم ندم منهم فريق فتاب وبقي فريق على كفره وارتداده .

وفي هذا صور متنوعة من السيرة النبوية في مكائد اليهود وحالات مرضى القلوب ومجاهدة النبي صلى الله عليه وسلم بين ذلك كله .

والشدة في الإنذار والتقريع تلهم أن أثر الارتداد كان شديدا في نفس النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين سواء أكان من اليهود أم من العرب . ولعلّ هذا يفسر ما أثر من حديث نبوي صحيح في حلّ دم المرتد إذا لم يتب على ما شرحناه في سياق الآية [ 219 ] من سورة البقرة .

ولقد تعددت تأويلات المفسرين لمفهوم الآية [ 90 ] الذي يمنع قبول توبة الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا . فقال بعضهم : إنها تعني أن لا تقبل توبتهم ما داموا مشتدين في كفرهم . وقال بعضهم : لا تقبل منهم أعمال خير وهم على كفرهم ، وهذا وذاك من تحصيل الحاصل . وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم حين الظفر بهم ؛ لأن توبتهم تكون غير صادقة . وقال بعضهم : لا تقبل توبتهم إذا تابوا حين الموت{[442]} . وقد يكون في القولين الأخيرين الوجاهة والصواب . وفي سورة النساء آيات تؤيد القول الأخير خاصة حيث جاء فيها : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ( 17 ) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( 18 ) } .

ويتبادر لنا إلى ذلك أن أسلوب الآية والآية التي تليها هو أسلوب تعبيري في صدد شدة الإنذار تتناسب مع فظاعة العمل .

والمتبادر أن تعبير { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ } هو تعبير مستمد من شدة تقدير قيمة الذهب في أذهان السامعين بقصد التعبير عن استحالة غفران الله للذين يموتون وهم كفار . وقد تكرر هذا التعبير أو ما يقاربه في سور مكية{[443]} .


[442]:انظر تفسير الآية في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والبغوي.
[443]:انظر آية سورة يونس [54] والزمر [47].