التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا} (62)

( 1 ) المرجفون : من الإرجاف . وهو إشاعة الشائعات السيئة لتخويف الناس وإثارتهم .

( 2 ) المدينة : يثرب وقد سميت في الإسلام باسم المدينة ومدينة الرسول .

{ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ( 1 ) فِي الْمَدِينَةِ( 2 ) لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ( 60 ) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ( 61 ) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ( 62 ) } [ 60 62 ] .

في هذه الآيات

1- إنذار قاصم لفئات المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة بأنهم إذا لم ينتهوا عما يبثونه من وساوس ودسائس ، ويوقعونه من أذى وقلاقل فإن الله يغري نبيه بهم ويسلطه عليهم ويقدره على طردهم من المدينة مدموغين بدمغة اللعنة مهدوري الدم ليقتلوا قتلا ذريعا بدون هوادة واستثناء وتساهل أين ما وجدوا .

2- وتنبيه على أن هذه هي سنة الله فيمن مضى من أمثالهم من الأمم وهي السنة التي لا تتبدل في حال .

تعليق على الآية

{ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ( 60 ) } .

والآيتين التاليتين لها

ولم نطلع على راوية خاصة في مناسبة نزولها . وإنما قال المفسرون{[1716]} : إن المنافقين كانوا يشيعون أخبار السوء عن سرايا النبي صلى الله عليه وسلم وبعوثه الجهادية بسبيل إلقاء الرعب في قلوب المسلمين وتخويفهم وتخذيلهم . وإن الآيات هي في صدد ذلك . وهذا هو معنى الإرجاف على ما قالوه ، وقد روى الطبري عن عكرمة تأويلا لجملة { وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أنهم أصحاب شهوة الزنا الذين يتبعون النساء والآيات شملت هؤلاء وهؤلاء .

والذي يتبادر لنا من روحها ومن السياق السابق أن الإنذار هو بصدد ما كان يبدوا من الفئات المذكورة فيها من سوء أدب وذوق وبذاءة وأذى وكيد ودس وولوغ في أعراض وإثارة الريب والفتنة سواء أكان في حق الله ورسوله أم في حق المؤمنين والمؤمنات ، وأنها بناء على ذلك متصلة السابقة سياقا وموضوعا .

ولقد احتوت الآيات حكما قرآنيا موكولا تنفيذه للنبي صلى الله عليه وسلم بتأديب هذه الفئات إذا لم تنته عن أذاها وإرجافها بعد الإنذار ، وهو الطرد وإهدار الدم والقتل دون هوادة وتسامح . واحتوت بالتبعية توطيدا لسلطان النبي وإيذانا باستعمال القوة والصرامة بحقها .

وقد يلحظ أن الآية الأولى احتوت أوصاف ثلاث فئات . ولقد ذكر المنافقون ومرضى القلوب في آيات عديدة . منها ما جاء في السور التي سبق تفسيرها وشرحنا مدى أمرهم ، والمرجفون يأتي ذكرهم هنا أول مرة . والراجح أنهم الذين يبثون شوائع السوء وروح الهزيمة ، ويثبطون الهمم ، وهذا مما قاله المؤولون على ما ذكرناه آنفا .

والإنذار والتنديد الشديدان في الآية موجهنا إلى الفئات الثلاث على السواء حيث يتبادر من هذا أنها تصدر عن موقف واحد هو عدم الإخلاص في الإيمان بالله ورسوله ، والوقوف عند أوامرهما ونواهيهما ، وأن التعدد آت من كون كل منها كانت تتميز بعمل من أعمال الضرر والشر والأذى فيكون ديدن واحدة هو الإرجاف وواحدة هو الاستهتار بالقيم والأعراض ، وواحدة هو الرياء والخداع والوقوف من النبي والإسلام والمسلمين موقف التربص . والله تعالى أعلم .

ولم نطلع على روايات وثيقة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد طرد هده الفئات من المدينة وأهدر دمها ، بل هناك آيات كثيرة في سور عديدة يجيء ترتيبها بعد هذه السورة تدل على أن النبي قد وسع صدره ولحمه لهم مع ما تكررت حكاية القرآن عنهم من مواقف الدرس والتشكيك والتعطيل والتثبيط وإشاعة الفاحشة والقلق والخوف بين المسلمين في مختلف الظروف ، بل ومع ما ذكرته إحدى آيات التوبة من أنهم قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إيمانهم [ 74 ] ومع ما أمرته إحدى آيات هذه السورة وإحدى آيات سورة التحريم من مجاهدتهم والإغلاظ عليهم هم والكفار سواء : { يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير } التوبة [ 73 ] ، والتحريم [ 9 ] وأنه ظل على هذه الخطة إلى آخر حياته . وأن باب التوبة ظل مفتوحا لهم في جميع الظروف كما جاء في السور المدينة التي نزلت بعد هذه السورة مضافا إليها ما جاء في السور المدينة السابقة لهذه السورة معا . فمن المحتمل والحالة هذه أن الآيات قد أثرت التأثير المطلوب في أفراد هذه الفئات في الصدد والظروف التي نزلت فيها فلزموا حدودهم وكفوا أذاهم وكفي المؤمنين شرهم بوجه الإجمال . كما أن من الممكن أن يقال : إن النبي قد ألهم سعة الصدر لهم والحلم عليهم لما كان بينهم وبين كثير من المخلصين من روابط رحم وقربى ، ولم يعتبرهم أعداء محاربين كالكفار ، ولا سيما أنهم كانوا يتظاهرون بالإسلام ، ويقومون بفرائضه التعبدية والمالية ويشركون في الجهاد ويحلفون الأيمان على إخلاصهم وصدق إسلامهم على ما حكته آيات عديدة في سور عديدة بعد هذه السورة . وإنهم أخذوا بعد التنكيل باليهود يتضاءلون عددا وقوة . وتضيق دائرة عدواهم وشرهم ومكائدهم . وإن النبي اعتبر هذه الآية وأمثالها بمثابة توجيهات متروك إليه أمر تقدير ظروف تنفيذها والسير فيها بما يوافق مصلحة الإسلام والمسلمين .

ومع خصوصية الآيات الزمنية والموضوعية ، فالذي يتبادر لنا أن حكمها عام شامل ومستمر ، وموكول لأولي الأمر في المسلمين ؛ حيث توجب عليهم سلوك سبيل الشدة في القمع والتنكيل مع من لم يرتدع عن موقف الأذى والدس والإرجاف لسلامة المجتمع وطمأنينته .

ولقد يرد على هذا أن وصف المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين في المدينة هو وصف متصل بالعهد النبوي . غير أن الذي ينعم النظر في حالة المجتمعات في أي ظرف ومكان يجد بدون ريب هذه الفئات فيها وإن تنوعت صورها ؛ حيث تتمثل في الذين يتخذون الطغاة والظالمين والأعداء أولياء يبتغون عندهم العزة ويساعدونهم على إذلال أمتهم واستعبادها ويخونون مصالح بلادهم وأمنها بسبيل منافعهم أو أحقادهم أو الاثنتين معا . وتتمثل كذلك في الذين يشيعون الفاحشة بين الناس ويثيرون فيهم الشكوك والهواجس والفزع في أوقات الأزمات ويستهترون بالقيم الأخلاقية والإنسانية والروحية والاجتماعية والأسروية الصالحة المستحبة بسبيل نزواتهم وأهوائهم . ويقصرون في واجبات الإخلاص والتضامن والتعاون والتضحية المتنوعة ، ولا يبالون بما يقع على أمتهم من مصائب ومظالم وبغي ونكبات و لا يهتمون إلا لمصالحهم الخاصة . حيث يبدو من هذا مدى الإعجاز القرآني في وصف ومعالجة حالات تقع في كل ظرف ومكان وفي شمول التنديد والإنذار ، وحيث يصدق ما قلناه من تلقين الآيات المستمر .


[1716]:أنظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير.