محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوۡاْ مِن قَبۡلُۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبۡدِيلٗا} (62)

ثم أشار تعالى إلى أن ذلك ليس ببدع ، بقوله :

{ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ } أي في المفترين والمؤذين الذين مضوا ، إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا ، أن يسلط عليهم أهل الإيمان فيقهرونهم . { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } أي لأنه لا يبدلها ، أو لا يقدر أحد أن يبدلها .

تنبيهات :

الأول – قال الشهاب : إما أن يراد بالمنافقين والمراض والمرجفين ، قوم مخصوصون ، ويكون العطف لتغاير الصفات مع اتحاد الذات ، على حد ( إلى الملك القرم وابن الهمام ) أو يراد بهم أقوام مختلفون في الذوات والصفات . فعلى الأول ، تكون الأوصاف الثلاثة للمنافقين . وهو الموافق لما عرف من وصفهم بالذين في قلوبهم مرض ، كما مر في البقرة ، والأراجيف بالمدينة أكثرها منهم . لكنه لا يوافق ما ذيل به من الوعيد بالإجلاء والقتل . فإنه لم يقع للمنافقين . وعلى الثاني ، هم المنافقون وقوم ضعاف الدين . كأهل الفجور . والمرجفون اليهود الذين كانوا مجاورين لهم بالمدينة . وقد وقع القتال والإجلاء لمن لم ينته منهم . وهم اليهود . انتهى .

الثاني – ذكروا أن معنى قوله تعالى : { أخذوا وقتلوا تقتيلا } أنهم إذا خرجوا لا ينفكون عن المذلة ، ولا يجدون ملجأ . بل أينما يكونون ، يطلبون ويؤخذون ويقتلون . وعليه ، فالجملة خبرية . وانظر هل من مانع أن تكون الجملة دعائية كقوله {[6242]} : { عليهم دائرة السوء } وقوله {[6243]} : { ويل لكل همزة لمزة كأنه قيل : أخذهم الله . أي أهلكهم وقتلهم أبلغ قتل وأشده . ولم أر أحدا تعرض له . وقد أفاد ابن عطية ، أن كل ما كان بلفظ الدعاء من الله تعالى ، فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء . لأن الله لا يدعو على مخلوقاته وهي في قبضته ، أي لاستحالة حقيقة الدعاء وهو الطلب من الغير .

الثالث – في ( الإكليل ) : في الآية تحريم الأذى بالإرجاف . وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : { والذين في قلوبهم مرض } قوم كانوا يجلسون على الطريق ، يكابرون المرأة مكابرة . فنزلت فيهم الآية إلى قوله : { أخذوا وقتلوا تقتيلا } قال : هذا حكم في القرآن ، ليس يعمل به ، لو أن رجلا أو أكثر من ذلك اقتصوا أثر امرأة فغلبوها على نفسها ففجروا بها ، كان الحكم فيهم غير الجلد والرجم ، أن يؤخذوا فتضرب أعناقهم . انتهى .

وهذا وقوف مع وجه تحتمله الآية . كما قدمنا . على أن للحاكم أن يفعل ذلك ، إذا رأى في ذلك مصلحة ودرء مفسدة . على قاعدة رعاية المصالح التي هي أم الباب . كما بسط ذلك النجم الطوفي في ( رسالته ) وأيدناه بما علقناه عليها .

الرابع – كتب الناصر في ( الانتصاف ) على قول الكشاف في قوله : { إلا قليلا } أي زمنا قليلا ريثما يرتحلون ويتلقطون أنفسهم وعيالاتهم ، ما مثاله : فيها إشارة إلى أن من توجه عليه إخلاء منزل مملوك للغير بوجه شرعي ، يمهل ريثما ينتقل بنفسه ومتاعه وعياله برهة من الزمان حتى يتحصل له منزل آخر ، على حسب الاجتهاد . انتهى .


[6242]:(9 / التوبة / 98) و (48 / الفتح / 6).
[6243]:(104 / الهمزة / 1).