الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{كَذَّبَ أَصۡحَٰبُ لۡـَٔيۡكَةِ ٱلۡمُرۡسَلِينَ} (176)

قوله : { الأَيْكَةِ } : قرأ نافعٌ وابنُ كثير وابن عامر " لَيْكَةَ " بلامٍ واحدةٍ وفتح التاء . جعلوه اسماً غيرَ مُعَرَّفٍ بأل مضافاً إليه " أصحاب " هنا ، وفي ص خاصة . والباقون " الأَيْكَةِ " مُعَرَّفاً بأل موافقةً لِما أُجْمِعَ عليه في الحجر وفي ق .

وقد اضْطَرَبَتْ أقوالُ الناسِ في القراءةِ الأُولى . وتجرَّأَ بعضُهم على قارئها ، وسأذكر لك من ذلك طرفاً . فَوَجْهُها على ما قال أبو عُبيد : " أَنَّ لَيْكَةَ اسمٌ للقريةِ التي كانوا فيها ، والأيْكَةَ اسمٌ للبلدِ كله . قال أبو عبيد : " لا أُحِبُّ مفارقَةَ الخَطِّ في شيءٍ من القرآنِ إلاَّ ما يَخْرُج من كلامِ العربِ ، وهذا ليسَ بخارجٍ من كلامِها مع صحةِ المعنى في هذه الحروفِ ؛ وذلك أنَّا وَجَدْنا في بعضِ التفسيرِ الفرقَ بين لَيْكة والأَيْكة فقيل : لَيْكة هي اسمُ القرية التي كانوا فيها ، والأَيْكَةُ : البلادُ كلُّها فصار الفرقُ بينهما شبيهاً بما بين بَكَّة ومَكَّة ، ورَأَيْتُهُنَّ مع هذا في الذي يقال : إنه الإِمامُ مصحفُ عثمانَ مفتَرِقاتٍ ، فوجَدْتُ التي في الحجر والتي في ق " الأَيْكَة " ، ووَجَدْتُ التي في الشعراءِ والتي في ص " لَيْكَة " ، ثم اجْتَمَعَتْ عليها مصاحفُ الأمصارِ بعدُ ، فلا نَعْلَمُها اختلفَتْ فيها . وقرأ أهلُ المدينةِ على هذا اللفظِ الذي قَصَصْنا يعني بغيرِ ألفٍ ولامٍ ولا إجراءٍ " . انتهى ما قاله أبو عبيد . قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة بعدما نقَلْتُه عنه : " هذه عبارتُه وليسَتْ سديدةَ ؛ فإن اللامَ موجودةٌ في " لَيْكة " وصوابُه بغير ألفٍ وهمزةٍ " . قلت : بل هي سديدةٌ . فإنه يعني بغيرِ ألفٍ ولامِ معرفةٍ لا مُطْلقَ لامٍ في الجملة .

وقد تُعُقِّبَ قولُ أبي عبيدٍ ، وأنكروا عليه ، فقال أبو جعفر : " أَجْمع القرَّاءُ على خفضِ التي في الحجر وق فيجبُ أَنْ يُرَدَّ ما اخْتُلِفَ/ فيه إلى ما اتُّفِقَ عليه إذا كان المعنى واحداً . فأمَّا ما حكاه أبو عبيدٍ مِنْ أَنَّ " ليكَةَ " اسمُ القرية ، وأن الأَيْكَةَ اسمُ البلدِ كلِّه فشيْءٌ لا يَثْبُتُ ولا يُعْرَفُ مَنْ قاله ، ولو عُرِفَ لكان في نظرٌ ؛ لأنَّ أهلَ العلمِ جميعاً من المفسِّرين والعالِمين بكلامِ العرب على خلافِه . ولا نَعْلم خلافاً بين أهلِ اللغة أنَّ الأَيْكَة الشجرُ الملتفُّ . فأمَّا احتجاجُ بعضِ منِ احتجَّ لقراءة مَنْ قَرَأ في هذين الموضعين بالفتح أنَّه في السَّوادِ " لَيْكة " فلا حجَّةَ فيه . والقولُ فيه : أنَّ أصلَه : الأَيْكَة ، ثم خُفِّفَتِ الهمزةُ فَأُلْقِيَتْ حركتُها على اللامِ فسَقَطَتْ واستَغْنَيْتَ عن ألفِ الوصلِ ؛ لأنَّ اللامَ قد تحرَّكَتْ ، فلا يجوزُ على هذا إلاََّ الخفضُ ، كما تقول : مررتُ بالأَحْمَرِ على تحقيقِ الهمزةِ ، ثم تُخَفِّفُها فتقول : بِلَحْمَرِ فإنْ شِئْتَ كَتَبْتَه في الخَطِّ على ما كتبتَه أولاً ، وإن شِئْتَ كَتَبْتَه بالحَذْفِ ولم يَجُزْ إلاَّ الخفضُ ، فلذلك لا يجوزُ في " الأَيْكَةِ " إلاَّ الخفضُ .

قال سيبويه : " واعلَمْ أنَّ كلَّ ما لم يَنْصَرِفْ إذا دَخَلَتْه الألفُ واللامُ أو أَضَفْتَه انصرَفَ " ، ولا نعلمُ أحداً خالَف سيبويه في هذا " .

وقال المبردُ في كتاب " الخط " " كَتَبُوا في بعضِ المواضعِ " كَذَّبَ أصحابُ لَيْكَة " بغير ألفٍ ؛ لأن الألفَ تذهبُ في الوصلِ ، ولذلك غَلِطَ القارىءُ بالفتحِ فَتَوَهَّم أنَّ " لَيْكَةَ " اسمُ شيءٍ ، وأنَّ اللامَ أصلٌ فَقَرأ : أصحابُ ليكةَ " . وقال الفراء : " نرى والله أعلم أنها كُتِبَتْ في هذين الموضعين بتركِ الهمزِ فسَقَطَتِ الألفُ لتحريكِ اللام " . قال مكي : تَعَقَّب ابنُ قتيبَة على أبي عبيد فاختار " الأَيْكَةِ " بالألفِ والهمزةِ والخفضِ قال : " إنما كُتِبَتْ بغيرِ ألفٍ على تخفيفِ الهمزِ " . قال : " وقد أجمعَ الناسُ على ذلك ، يعني في الحجر وق ، فوَجَبَ أَنْ يُلْحَقَ ما في الشعراء وص بما أَجْمَعوا عليه ، فما أَجْمَعُوا عليه شاهِدٌ لما اخْتَلفوا فيه " .

وقال أبو إسحاق : " القراءة بجَرِّ قوله : " ليكةِ " وأنت تريد " الأيكة " أجودُ مِنْ أَنْ تجعلَها " لَيْكَةَ " ، وتفتَحها ؛ لأنَّها لا تنصرفُ ؛ لأنَّ لَيْكَة لا تُعَرَّفُ ، وإنما هي أَيْكة للواحدِ ، وأَيْك للجمعِ مثل : أَجَمَة وأَجَم . والأَيْكُ : الشجرُ الملتفُّ فأجودُ القراءةِ فيها الكسرُ ، وإسقاطُ الهمزة ، لموافقة المصحف ولا أعلمه إلاَّ قد قُرِىء به " .

وقال الفارسيُّ : " قولُ مَنْ قال " ليكةَ " ففتحَ التاءَ مُشْكِلٌ ، لأنه فَتَحَ معِ لَحاقِ اللامِ الكلمةَ . وهذا في الامتناعِ كقولِ مَنْ قال : " مَرَرْتُ بِلَحْمَرَ " ففتحَ الأخِرَ مع لَحاقِ لامِ المعرفةِ ، وإنما كُتِبَتْ " لَيْكَةَ " على تخفيفِ الهمزِ ، والفتحُ لا يَصِحُّ في العربيةِ ؛ لأنه فَتْحُ حرفِ الإِعرابِ في موضع الجرِّ مع لامِ المعرفةِ ، فهو على قياسِ قَوْلِ مَنْ قال " مررتُ بلَحْمَرَ " . ويَبْعُدُ أَنْ يفتحَ نافعٌ ذلك مع ما قال عنه ورش " .

قلت : يعني أنَّ وَرْشاً نَقَلَ عن نافعٍ نَقْلَ حركةِ الهمزةِ إلى الساكنِ قبلَها ، حيث وُجِد بشروطٍ مذكورةٍ ، ومن جملةِ ذلك : ما في سورةِ الحجر وق مِنْ لفظِ " الأيكة " فقرَأ على قاعدتِه في السورتين بنَقْلِ الحركةِ وطَرْحِ الهمزةِ وخَفْضِ الياءِ ، فكذلك ينبغي أَنْ يكونَ الحكمُ في هذين الموضعينِ أيضاً .

وقال الزمخشري : " قُرِىءَ " أصحابُ الأَيْكة " بالهمزة وتخفيفها وبالجرِّ على الإِضافةِ ، وهو الوجهُ . ومَنْ قَرَأَ بالنصبِ وزعَمَ أنَّ لَيْكَة بوزنِ لَيْلة اسمُ بلد ، فَتَوَهُّمٌ قاد إليه خطُّ المصحفِ ، وإنما كُتبت على حكمِ لفظِ اللافظ كما يكتب أَصحاب [ النحو ] ، لأن . . . على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف ، وقد كُتِبَتْ في سائرِ القرآنِ على الأصلِ ، والقصة واحدةٌ . على أنَّ لَيْكَة اسمٌ لا يُعْرَفُ . ورُوي أنَّ أصحابَ الأَيْكة كانوا أصحابَ شجرٍ مُلْتَفٍّ وكان شجرُهم الدَّوْمَ ، يعني أنَّ مادةَ لام ي ك مفقودةٌ في لسانِ العرب كذا قال النُّقَّابُ مِمَّنْ تَتَبَّع ذلك قال : " وهذا كما نَصُّوا على أن الخاء والذال المعجمتين لم يُجامعا الجيمَ في لغةِ العربِ " ولذلك لم يَذْكرها صاحب " الصحاح " مع ذكرِه التفرقةَ المتقدمةَ عن أبي عبيد ، ولو كانت موجودةً في اللغةِ لذكرها مع ذكرِه التفرقةَ المتقدمةَ لشدة الاحتياجِ إليها .

وقال الزجاج أيضاً : " أهلُ المدينة يفتحون على ما جاء في التفسيرِ : أن اسمَ المدينة التي كان فيها شعيبٌ لَيْكة " قال أبو علي : " لو صَحَّ هذا فلِمَ/ أجمعَ القرَّاءُ على الهمزِ في قوله : { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ }

[ الآية : 78 ] في الحجر . والأَيْكة التي ذُكِرَتْ ههنا هي الأَيْكَةُ التي ذُكِرَتْ هناك . وقد قال ابن عباس : " الأَيْكَةُ : الغَيْضَةُ " ولم يُفَسِّرْها بالمدينةِ ولا البلدِ " .

قلت : وهؤلاء كلُّهم كأنَّهم زعموا أن هؤلاء الأئمةَ الأثباتَ إنما أَخَذوا هذه القراءةَ مِنْ خَط المصاحفِ دونَ أفواهِ الرجالِ ، وكيف يُظَّنُّ بمثلِ أَسَنِّ القراءِ وأعلاهُمْ إسناداً ، الآخذِ للقرآن عن جملةٍ من جُلَّة الصحابةِ أبي الدرداء وعثمان بن عفان وغيرهما ، وبمثل إمامِ مكةَ شَرَّفها الله تعالى وبمثل إمامِ المدينةِ ؟ وكيف يُنْكَرُ على أبي عبيدٍ قولُه ، أو يُتَّهَمُ في نَقْلِه ؟ ومَنْ حَفِظَ حجةٌ على مَنْ لم يَحْفَظْ ، والتواتُرُ قَطْعِيٌّ فلا يُعارَضُ بالظنِّي .

وأمَّا اختلافُ القراءةِ مع اتحادِ القصةِ فلا يَضُرُّ ذلك ، عَبَّر عنها تارةً بالقريةِ خاصةً ، وتارةً بالمصرِ الجامعِ للقرى كلِّها ، الشاملِ هو لها . وأمَّا تفسيرُ ابنِ عباس فلا ينافي ذلك ، لأنَّه عَبَّر عنها بما كَثُر فيها . ومَنْ رأى ما ذكرْتُه من مناقبِ هؤلاء الأئمةِ في شَرْحِ " حرز الأماني " اطَّرَحَ ما طُعِنَ به عليهم ، وعَرَفَ قَدْرهم ومكانتَهم . وقال أبو البقاء في هذه القراءةِ : " وهذا لا يَسْتقيمُ ؛ إذ ليس في الكلامِ " لَيْكة " حتى يُجْعَلَ عَلَماً . فإن ادُّعِي قَلْبُ الهمزة لاماً فهو في غايةِ البُعْدِ " . قلت :

وابنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ *** لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعيسِ

" أطرقْ كرا إنَّ النِّعامِ بالقُرى " " مَنْ أنت وزيداً " .