قوله تعالى : { كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيكة المرسلين } .
قرأ نافع وابن كثير وابن عامر : «لَيْكَةَ » بلام واحدة وفتح التاء ، جعلوه اسماً غير مُعَرَّفٍ ب «أل » مضافاً إليه «أَصْحَاب » هنا وفي «ص »{[37735]} خاصة .
والباقون : «الأَيْكَةِ » معرفاً ب «أل » مُوافقةً لما أُجْمِعَ{[37736]} عليه في الحِجْر{[37737]} وفي «ق »{[37738]} .
وقد اضطربت أقوال الناس في القراءة الأولى ، وتجرأ{[37739]} بعضهم على قارئها .
ووَجْهُهَا على ما قال أبو عُبَيد : أن ( ليكة ) اسم للقرية التي كانوا{[37740]} فيها و ( الأَيْكَة ) :
اسم للبلد كُلِّه . قال أبو عُبَيد : لا أحب مفارقة الخط في شيءٍ من القرآن إلاَّ ما يخرُجُ من كلام العرب وهذا ليس بخارج{[37741]} من كلامها مع صحة المعنى في هذه الحروف ، وذلك أَنَّا وجدنا في بعض التفاسير الفرق بين «لَيْكَة » ، و «الأيكة » ، فقيل : «لَيْكَةُ » هو{[37742]} اسمٌ للقرية التي كانوا فيها . والأَيْكَة : البلاد كلها ، فصار الفرق بينهما شبيهاً بما بين ( مَكَّةَ ، وبكَّةَ ) ورأيتهن مع هذا في الذي يقال : إنه الإمام - مصحف عثمان - مفترقان ، فوجدت التي في «الحِجْر » والتي في «ق » : «الأَيْكَة » ، ووجدت التي في «الشعراء » والتي في «ص » «لَيْكَة » ثم اجتمعت عليها مصاحف الأَمْصَار{[37743]} بعدُ ، فلا نعلمها إذاً اختلفت{[37744]} فيها ، وقرأ أهل المدينة على هذا اللفظ الذي قَصَصْنا ، يعني : بغير ألف ولام{[37745]} ، ولا{[37746]} إجراء{[37747]} .
انتهى ما قاله أبو عبيد{[37748]} . قال أبو شامة{[37749]} بعد نقله كلام أبي عبيد : هذه عبارته ، وليست سديدة ، فإن اللام موجودة في «لَيْكَة » وصوابه : بغير ألف وهمزة{[37750]} . قال شهاب الدين : بل هي سديدة ، فإنه يعني بغير ألفٍ ولامٍ مُعَرفَةٍ لا مطلق لامٍ في الجملة{[37751]} .
وقد تُعقِّبَ{[37752]} قول{[37753]} أبي عُبيد وأنكروا عليه ، فقال أبو جعفر{[37754]} : أجمع القراء على خفض التي في «الحِجر » و «ق » فيجب أن يُرَدَّ ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه إذ كان المعنى واحداً ، فأما ما حكاه أبو عبيد من " ليكة " : اسم القرية{[37755]} ، وأن " الأيكة " : اسم البلد{[37756]} كله ، فشيء لا يثبت ولا يُعْرَفُ مَنْ قاله ولو عُرِف لكان فيه نظر ، لأَنَّ أهل العلم جميعاً من المفسرين والعالمين{[37757]} بكلام العرب على خلافه ، ولا نعلم خلافاً بين أهل اللغة أن «الأَيْكَة » الشجر المُلْتَفُّ .
فأما احتجاج بعض من احتج لقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح ، لأنه في السواد{[37758]} «لَيْكَةَ » فلا حجة فيه ، والقول فيه : إن أصله : «الأَيْكَة » ثم خففت الهمزة ، فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنت عن ألف الوصل ، لأَنَّ اللام قد تحركت فلا يجوز على هذا إِلاَّ الخفض ، كما تقول : «مَرَرْتُ بِالأَحْمَر » على تحقيق الهمزة ثم تخففها فتقول : «بِلحْمَر » ، فإن شئت كتبته{[37759]} في الخط على ما كتبته{[37760]} أولاً ، وإِنْ شئت كتبته{[37761]} بالحذف ، ولم يَجُزْ إلاَّ الخفض ، فلذلك{[37762]} لا يجوز في «الأَيْكَة » إلاَّ الخَفْض ، قال سيبويه : واعلم أَنَّ كل ما لم ينصرف إذا دَخَلَتْهُ{[37763]} الألف واللام أو أضفته{[37764]} ( انصرف ){[37765]} {[37766]} .
ولا نعلم أحداً خالف سيبويه في هذا{[37767]} وقال المبرّد في كتاب الخط : كتبوا في بعض المواضع : { كَذَّبَ أَصْحَابُ لَيْكَةَ } بغير ألف ، لأن الألف تذهب في الوصل ، ولذلك{[37768]} غلط القارىء بالفتح فتوهم أن «لَيْكَة » اسم شيء ، وأن اللام أصل فقرأ : «أَصْحَابُ لَيْكَة »{[37769]} .
وقال الفراء : نرى - والله أعلم - أنها كتبت في هذين الموضعين بترك الهمز{[37770]} ، فسقطت الألفُ لتحريك اللام{[37771]} . قال مكيّ : تعقَّبَ ابن قتيبة على أبي عبيد فاختار «الأَيْكَة » بالألف والهمزة والخفض ، وقال : إِنَّمَا{[37772]} كُتِبَتْ بغير ألف على تخفيف الهمز ، قال : وقد أجمع الناس على ذلك ، يعني : في «الحِجْر » و «ق » فوجب أن يُلحَق ما في «الشعراء » و «ص »{[37773]} بما{[37774]} أجمعُوا عليه ، فما أجمعوا عليه شاهد لما اختلفوا فيه{[37775]} . وقال{[37776]} أبو إسحاق{[37777]} : القراءة بِجَرِّ لَيْكَةِ وأنت تريد «الأَيْكَةِ »{[37778]} أجود من أن تجعلها «لَيْكَة » وتفتحها ؛ لأَنَّها لا تتصرف لأن «لَيْكَة » لا تُعرَّفُ{[37779]} ، وإنما هي «أَيْكَة » للواحد ، و «أَيكٌ » للجمع ، مثل : أَجمة وأَجَم . والأَيْكُ : الشجر الملتف ، فأجود القراءة فيها الكسر وإسقاط الهمزة لموافقة المصحف ؛ ولا أعلمه إلا قد قرىء به{[37780]} .
وقال الفارسي : قول من قال : «لَيْكَة » بفتح التاء مُشكِلٌ ، لأنه فتح مع لحاق اللام{[37781]} الكلمة ، وهذا في الامتناع كقول من قال : مَرَرْت بِلَحْمَر . فيفتح الآخر مع لحاق لام المعرفة ، وإنما كتبت «لَيْكَة » على تخفيف الهمز{[37782]} ، والفتح لا يصح في العربية لأنه فتح حرف الإعراب في موضع الجرّ مع لام المعرفة ، فهو على قياس قول من قال : مَرَرْتُ بِلَحْمَر ، ويبعد أن يفتح نافع ذلك مع ما قال عنه ورش{[37783]} . يعني أنَّ وَرْشاً نقل عن نافع نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها حيث وُجِدَ بشروط مذكورة ، ومن جملة ذلك ما في سورة «الحِجْر » و «ق » لفظ «الأَيْكَة » ، فقرأ على قاعدته في السورتين بنقل الحركة وطرح الهمز وخفض التاء{[37784]} ، فكذلك ينبغي أن يكون الحكم في هذين الموضعين أيضاً{[37785]} .
وقال الزمخشري : قرىء «أَصْحَابُ الأَيْكَةِ » بالهمزة وبتخفيفها وبالجر على الإضافة ، وهو الوجه ، ومن قرأ بالنصب وزعم أنَّ «لَيْكَة » بوزن :{[37786]} «لَيْلَة » - اسم بلد - فتوهُّمٌ قاد إليه خط المصحف{[37787]} . .
وإنما كتبت على حكم لفظ اللافظ ، كما يكتب أصحاب ( النحو ){[37788]} لان ولولى{[37789]} على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف . وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل والقصة واحدة ، على «أنَّ لَيْكَةَ » اسم لا يعرف ، وروي أَنَّ «أَصْحَابَ الايْكَةِ » كانوا أصحاب شجر مُلْتَفٍّ ، وكان شجرهم الدَّوم{[37790]} ، وهو شَجَرُ المُقْل{[37791]} . يعني أن مادة ( ل ي ك ) مفقودة في لسان العرب . كذا قال الثقات ممن تتبَّع ذلك .
قال{[37792]} : وهذا كما نصُّوا على أنَّ الخاء والذال المعجمتين لم يجامعا الجيم في لغة العرب ، ولذلك{[37793]} لم يذكرها صاحب «الصحاح »{[37794]} مع ذكره التفرقة المتقدمة عن أبي عبيد ، ولو كانت موجودة في اللغة لذكرها مع ذكره التفرقة المتقدمة لشدة الاحتياج إليها{[37795]} . وقال الزجاج أيضاً : أهل المدينة يفتحون على ما جاء في التفسير أنَّ اسم المدينة التي كان فيها شعيب ( «لَيْكَة »{[37796]} ){[37797]} .
قال أبو علي : لو صح هذا فلم أجمع{[37798]} القراء على الهمز في قوله : { وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة } [ الحجر : 78 ] في «الحِجْر » ، و «الأَيْكَةُ » التي ذكرت هاهنا هي «الأيْكَة » التي ذكرت هناك ، وقد قال ابن عباس : الأَيْكَةُ : الغَيْضَة{[37799]} ولم يفسرها بالمدينة ولا البلد{[37800]} . قال شهاب الدين : وهؤلاء كلُّهم كأنهم زعموا أنَّ هؤلاء الأئمة الأثبات إنما أخذوا هذه القراءة من خط المصاحف دون أفواه الرجال ، وكيف يظنُّ بمثل{[37801]} أسنِّ القرّاء وأعلاهم إسناداً ، والآخذ القرآن{[37802]} عن جملة من ( جلّة ){[37803]} الصحابة أبي الدَّرداء وعثمان بن عفان وغيرهما ، وبمثل{[37804]} إمام مكّة{[37805]} - شرّفها الله تعالى - وبمثل إمام المدينة{[37806]} ، وكيف ينكر على أبي عبيد قوله أو يتَّهم في نقله ؟ ومن حفظ حجةٌ على من لم يحفظ ؛ والتواتر قطعيٌّ فلا يعارض بالظني ، وأما اختلاف القراءة مع اتحاد القصة فلا يضر{[37807]} ذلك ، عبِّر عنها تارةٌ بالقرية خاصة وتارة بالمصر الجامع للقرى كلها ، الشامل هو لها ، وأما تفسير ابن عباس فلا ينافي ذلك ، لأنَّه عبر عنها بما كثر فيها{[37808]} .