تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّهُۥ لَيۡسَ لَهُۥ سُلۡطَٰنٌ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (99)

وقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ، قال الثوري : ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه .

وقال آخرون : معناه لا حجة له عليهم . وقال آخرون : كقوله : { إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ ص : 83 ] .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّهُۥ لَيۡسَ لَهُۥ سُلۡطَٰنٌ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (99)

وأما قوله : { إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } ، فإنه يعني بذلك : أن الشيطان ليست له حجة على الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا بما أمر الله به ، وانتهوا عما نهاهم الله عنه . { وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } ، يقول : وعلى ربهم يتوكلون فيما نابهم من مهمات أمورهم . { إنّمَا سُلْطَانُه عَلىَ الّذِينَ يتَولّونَهُ } ، يقول : إنما حجته على الذين يعبدونه ، { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ، يقول : والذين هم بالله مشركون .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { إنّمَا سُلْطانُهُ } ، قال : حجته .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : إ{ نّمَا سُلْطانُهُ على الّذِينَ يتَوَلّوْنَهُ } ، قال : يطيعونه .

واختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله لم يسلط فيه الشيطان على المؤمن . فقال بعضهم بما :

حُدثت عن واقد بن سليمان ، عن سفيان ، في قوله : { إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } قال : ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر .

وقال آخرون : هو الاستعاذة ، فإنه إذا استعاذ بالله ، منع منه ولم يسلط عليه . واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الله تعالى : { وإمّا يَنْزَغَنّكَ منَ الشّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللّهِ إنّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، وقد ذكرنا الرواية بذلك في سورة الحِجْر .

وقال آخرون في ذلك ، بما :

حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : { إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } ، إلى قوله : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } يقال : إن عدوّ الله إبليس قال : { لاأغْوِيَنّهُمْ أجَمعينَ إلاّ عبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ } ، فهؤلاء الذين لم يجعل للشيطان عليهم سبيل ، وإنما سلطانه على قوم اتخذوه وليّا وأشركوه في أعمالهم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } ، يقول : السلطان على من تولى الشيطان وعمل بمعصية الله .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّمَا سُلْطانُهُ عَلى الّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ } يقول : الذين يطيعونه ويعبدونه .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا فاستعاذوا بالله منه ، بما ندب الله تعالى ذكره من الاستعاذة ، { وَعَلى رَبهِمْ يَتَوَكّلُونَ } ، على ما عرض لهم من خطراته ووساوسه .

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية ؛ لأن الله تعالى ذكره أتبع هذا القول : { فإذَا قَرأتَ القُرآنَ فاسْتَعِذْ باللّهِ مِنَ الشّيْطانِ الرّجِيمِ } ، وقال في موضع آخر : { وَإمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللّهِ إنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، فكان بينا بذلك أنه إنما ندب عباده إلى الاستعاذة منه في هذه الأحوال ليُعيذهم من سلطانه .

وأما قوله : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم فيه بما قلنا إن معناه : والذين هم بالله مشركون . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } قال : يعدلون بربّ العالمين .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ، قال : يعدلون بالله .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ، عدلوا إبليس بربهم ، فإنهم بالله مشركون .

وقال آخرون : معنى ذلك : والذين هم به مشركون ، أشركوا الشيطان في أعمالهم . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ، أشركوه في أعمالهم .

والقول الأوّل ، أعني قول مجاهد ، أولى القولين في ذلك بالصواب ، وذلك أن الذين يتولون الشيطان إنما يشركونه بالله في عبادتهم وذبائحهم ومطاعمهم ومشاربهم ، لا أنهم يشركون بالشيطان . ولو كان معنى الكلام ما قاله الربيع ، لكان التنزيل : الذين هم مشركوه ، ولم يكن في الكلام «به » ، فكان يكون لو كان التنزيل كذلك : والذين هم مشركوه في أعمالهم ، إلا أن يوجه موجه معنى الكلام إلى أن القوم كانوا يدينون بألوهة الشيطان ويشركون الله به في عبادتهم إياه ، فيصحّ حينئذ معنى الكلام ، ويخرج عما جاء التنزيل به في سائر القرآن ، وذلك أن الله تعالى وصف المشركين في سائر سور القرآن أنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به عليهم سلطانا ، وقال في كل موضع تقدّم إليهم بالزجر عن ذلك : لا تشركوا بالله شيئا ، ولم نجد في شيء من التنزيل : لا تشركوا الله بشيء ، ولا في شيء من القرآن خبرا من الله عنهم أنهم أشركوا الله بشيء فيجوز لنا توجيه معنى قوله : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ، إلى والذين هم بالشيطان مشركو الله . فبين إذا إذ كان ذلك كذلك أن الهاء في قوله : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ } ، عائدة على «الربّ » في قوله : { وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّهُۥ لَيۡسَ لَهُۥ سُلۡطَٰنٌ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ} (99)

جملة { إنه ليس له سلطان } الآية تعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان عند إرادة قراءة القرآن وبيان لصفة الاستعاذة .

فأما كونها تعليلاً فلزيادة الحثّ على الامتثال للأمر بأن الاستعاذة تمنع تسلّط الشيطان على المستعيذ لأن الله منعه من التسلّط على الذين آمنوا المتوكّلين ، والاستعاذة منه شعبة من شعب التوكّل على الله لأن اللّجأ إليه توكّل عليه . وفي الإعلام بالعلّة تنشيط للمأمور بالفعل على الامتثال إذ يصير عالماً بالحكمة وأما كونها بياناً فلما تضمّنته من ذكر التوكّل على الله ليبيّن أن الاستعاذة إعراب عن التوَكّل على الله تعالى لدفع سلطان الشيْطان ليعقد المستعيذُ نيّتَه على ذلك .

وليست الاستعاذة مجرّد قول بدون استحضار نيّة العَوذ بالله .

فجملة { وعلى ربهم يتوكلون } صفة ثانية للموصول . وقدّم المجرور على الفعل للقصر ، أي لا يتوكّلون إلا على ربّهم . وجعل فعلها مضارعاً لإفاة تجدّد التوكّل واستمراره . فنَفي سلطان الشيطان مشروط بالأمرين : الإيمان ، والتوكّل . ومن هذا تفسير لقوله تعالى في الآية الأخرى { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [ سورة الحجر : 42 ] .

والسّلطان : مصدر بوزن الغُفران ، وهو التسلّط والتصرّف المكين .

فالمعنى أن الإيمان مبدأ أصيل لتوهين سلطان الشيطان في نفس المؤمن فإذا انضمّ إليه التوكّل على الله اندفع سلطان الشيطان عن المؤمن المتوكّل .