وقوله : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } قال العوفي ، عن ابن عباس : كان رجلان على عهد رسول الله ، أحدهما من الأنصار ، والآخر من قوم آخرين ، وإنهما تهاجيا ، فكان{[21930]} مع كل واحد منهما غواة من قومه - وهم{[21931]} السفهاء - فقال الله تعالى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أكثر قولهم يكذبون فيه .
وهذا الذي قاله ابن عباس ، رضي الله عنه ، هو الواقع في نفس الأمر ؛ فإن الشعراء يتَبجَّحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم ، فيتكثرون بما ليس لهم ؛ ولهذا اختلف العلماء ، رحمهم الله ، فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حَدًّا : هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا لأنهم يقولون ما لا يفعلون ؟ على قولين . وقد ذكر محمد بن إسحاق ، ومحمد بن سعد في الطبقات ، والزبير بن بَكَّار في كتاب الفكاهة : أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، استعمل النعمان بن عدي بن نَضْلَة على " ميسان " - من أرض البصرة - وكان يقول الشعر ، فقال :
ألا هَل أتَى الحَسْنَاءَ أنّ حَليِلَها *** بِمَيْسَانَ ، يُسقَى في زُجاج وَحَنْتَم
إذَا شئْتُ غَنَّتْني دَهاقينُ قَرْيَة *** وَرَقَّاصَةٌ تَجذُو على كل مَنْسم{[21932]}
فإنْ كُنتَ نَدْمانِي فَبالأكْبر اسْقني *** وَلا تَسْقني بالأصْغَر المُتَثَلم{[21933]}
لَعَل أميرَ المؤمنينَ يَسُوءه *** تَنادُمُنا بالجَوْسَق المُتَهَدَم
فلما بلغ [ ذلك ]{[21934]} أمير المؤمنين قال : أي والله ، إنه ليسوءني ذلك ، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته . وكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم { حم . تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ غافر : 1 - 3 ] أما بعد فقد بلغني قولك :
لَعَلَّ أمير المُؤمنينَ يَسُوُءه *** تَنَادُمُنَا بالجَوْسق{[21935]} المُتَهَدّم
وايم الله ، إنه ليسوءني وقد عزلتك . فلما قدم على عمر بَكَّتَه بهذا الشعر ، فقال : والله - يا أمير المؤمنين - ما شربتها قَطّ ، وما ذاك الشعر إلا شيء طَفح على لساني . فقال عمر : أظن ذلك ، ولكن والله لا تعمل لي على عمل أبدًا ، وقد قُلتَ ما قلتَ{[21936]} .
فلم يُذكر أنه حَدّه على الشراب ، وقد ضمنه شعره ؛ لأنهم يقولون ما لا يفعلون ، ولكنه{[21937]} ذمَّه عمر ، رضي الله عنه ، ولامه على ذلك وعزله به . ولهذا جاء في الحديث : " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا ، يَرِيه خير له من أن يمتلئ شعرًا " {[21938]} .
والمراد من هذا : أن{[21939]} الرسول صلى الله عليه وسلم{[21940]} الذي أنزل عليه{[21941]} القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر ؛
لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة ، كما قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } [ يس : 69 ] وقال تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ . وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ . تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الحاقة : 40 - 43 ] ، وهكذا قال هاهنا : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } إلى أن قال : { وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ . إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } إلى أن قال : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ . تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ . يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ . وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } .
وقوله : وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ يقول : وأن أكثر قيلهم باطل وكذب . كما :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ يقول : أكثر قولهم يكذبون ، وعني بذلك شعراء المشركين . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الرحمن بن زيد : قال رجل لأبي : يا أبا أسامة ، أرأيت قول الله جلّ ثناؤه : وَالشّعَرَاءُ يَتّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ألَمْ تَرَ أنّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأنّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ فقال له أبي : إنما هذا لشعراء المشركين ، وليس شعراء المؤمنين ، ألا ترى أنه يقول : إلاّ الّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ . . . الخ . فقال : فَرّجت عني يا أبا أسامة فرّج الله عنك .
وأغلب كلماتهم في النسيب بالحرم والغزل والابتهار وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب والوعد الكاذب والافتخار الباطل ومدح من لا يستحقه والإطراء فيه ، وإليه أشار بقوله : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } وكأنه لما كان إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى ، وقد قدحوا في المعنى بأنه مما تنزلت به الشياطين ، وفي اللفظ بأنه من جنس كلام الشعراء تكلم في القسمين وبين منافاة القرآن لهما ومضادة حال الرسول صلى الله عليه وسلم لحال أربابهما . وقرأ نافع " يتبعهم " على التخفيف ، و قرىء بالتشديد وتسكين العين تشبيها لبعضه بعضا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.