محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ} (226)

{ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ } أي مما يتبجحون به من أقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم ، كناية عن أنهم يكذبون غير مبالين بما يستتبعه من اللوائم . أي فكيف يتوهم أن يتبعهم في مسلكهم ذلك ، ويلتحق بهم وينتظم في سلكهم ، من تنزهت ساحته عن أن يحوم حولها شائبة الاتصاف بشيء من الأمور المذكورة ، واتصف بمحاسن الصفات الجليلة ، وتخلق بمكارم الأخلاق الجميلة وحاز جميع الكمالات القدسية ، وفاز بجملة الملكات الأنسية ، مستقرا على المنهاج القويم ، مستمرا على الصراط المستقيم ، ناطقا بكل أمر رشيد ، داعيا إلى صراط العزيز الحميد ، مؤيدا بمعجزات قاهرة ، وآيات ظاهرة ، مشحونة بفنون الحكم الباهرة ، وصنوف المعارف الزاهرة ، مستقلة بنظم رائق ، أعجز كل منطبق ماهر ، وبكت كل مفلق ساحر ! قاله أبو السعود .

تنبيه :

قال الحافظ ابن كثير : اختلف العلماء فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حدا . هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا ؟ لأنهم يقولون ما لا يفعلون – على قولين : وقد ذكر محمد بن إسحق ومحمد بن سعد {[5951]} في ( الطبقات ) والزبير بن بكار في كتاب ( الفكاهة ) أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل النعمان بن عدي بن نضلة على ميسان ، من أرض البصرة . وكان يقول الشعر ، فقال :

ألا هل أتى الحسناء أن خليلها *** بميسان يسقى في زجاج وحنتم

إذا شئت غنتني دهاقين قرية *** ورقاصة تحثو على كل مبسم

فإذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني *** ولا تسقني بالأصغر المتثلم

لعل أمير المؤمنين يسوؤه *** تنادمنا بالجوسق المتهدم

فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : ( إي والله ! إنه ليسوؤني ذلك . ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته . وكتب إليه عمر { بسم الله الرحمن الرحيم . حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم . غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير } أما بعد فقد بلغني قولك :

لعل أمير المؤمنين يسوؤه *** تنادمنا بالجوسق المتهدم

وايم الله ! إنه ليسوؤني ذلك . وقد عزلتك .

فلما قدم على عمر بكته بهذا الشعر . وقال : والله ! يا أمير المؤمنين ! ما شربتها قط . وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني . فقال عمر : ( أظن ذلك . ولكن ، والله ! لا تعمل لي عملا أبدا ، وقد قلت ما قلت ) .

فلم يذكر أنه حده على الشراب ، وقد ضمنه شعره ، لأنهم يقولون ما لا يفعلون ولكن ذمه عمر ولامه على ذلك وعزله به .

وحكى الزمخشري عن الفرزدق {[5952]} أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله :

فبتن بجانبي مصرعات *** وبت أفض أغلاق الختام

فقال : قد وجب عليك الحد فقال : يا أمير المؤمنين ! قد درأ الله عني الحد بقوله : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ }


[5951]:أخرجه ابن سعد في الطبقات، بالصفحة رقم 140 من الجز الرابع (طبعة بيروت) في ترجمة عدي بن نضلة.
[5952]:انظر في ديوانه الصفحة 835 قصيدته في مدح هشام بن عبد الملك، ومطلعها: ألستم عائجين بنا لعنا نرى العرصات أو أثر الخيام