التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ} (226)

وشفَّع مذمتهم هذه بمذمة الكذب فقال : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } ، والعرب يتمادحون بالصدق ويعيرون بالكذب ، والشاعر يقول ما لا يعتقد وما يخالف الواقع حتى قيل : أحسن الشعر أكذبه ، والكذب مذموم في الدين الإسلامي فإن كان الشعر كذباً لا قرينة على مراد صاحبه فهو قبيح ، وإن كان عليه قرينة كان كذباً معتذَراً عنه فكان غير محمود .

وفي هذا إبداء للبَون الشاسع بين حال الشعراء وحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يقول إلا حقاً ولا يصانع ولا يأتي بما يضلّل الأفهام .

ومن اللطائف أن الفرزدق أنشد عند سليمان بن عبد الملك قوله :

فبِتْن بجانبيَّ مصرَّعاتٍ *** وبتُّ أفضّ أغلاق الختام

فقال سليمان : قد وجب عليك الحد . فقال : يا أمير المؤمنين قد دَرَأ الله عَني الحد بقوله : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } . وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملاً لعمر بن الخطاب فقال شعراً :

مَن مُبلِغُ الحسناءِ أن حليلها *** بميسان يُسقى في زُجاج وحنتم

إلى أن قال :

لعل أميرَ المؤمنين يسوءه *** تنادُمُنا بالجَوْسَقِ المتهدم{[302]}

فبلغ ذلك عمرَ فأرسل إليه بالقُدوم عليه وقال له : أي والله إني ليسوءني ذلك وقد وجب عليك الحدّ ، فقال : يا أمير المؤمنين ما فعلتُ شيئاً مما قلتُ وإنما كان فضلةً من القول ، وقد قال الله تعالى : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } فقال له عمر : أمّا عذرك فقد درأ عنك الحد ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً وقد قلتَ ما قلت .


[302]:- الجوسق: القصر، كان أهل البطالة والخلاعة يأوون إلى القصور المتروكة.