تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدٞ وَشَرَابٞ} (42)

فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله . ففعل فأنبع الله عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينا أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ولهذا قال تعالى : { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } : قال ابن جرير ، وابن أبي حاتم جميعًا : حدثنا يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب أخبرني نافع بن يزيد عن عقيل عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن نبي الله أيوب عليه السلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به كانا يغدوان إليه ويروحان فقال أحدهما لصاحبه : تعلم - والله - لقد أذنب أيوب ذنبا ما أذنبه أحد من العالمين . قال له صاحبه : وما ذاك ؟ قال : من ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله ، فيكشفَ ما به فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له . فقال أيوب : لا أدري ما تقول غير أن الله يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله عز وجل ، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما ، كراهية أن يذكرا الله إلا في حق . قال : وكان يخرج إلى حاجته فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ فلما كان ذات يوم أبطأ عليها وأوحى الله تعالى إلى أيوب ، عليه السلام ، أن { ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } فاستبطأته فتلقته تنظر فأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء وهو على أحسن ما كان . فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك هل رأيت نبي الله هذا المبتلى . فوالله على ذلك ما رأيت رجلا أشبه به منك إذ كان صحيحا . قال : فإني أنا هو . قال : وكان له أندران أندر للقمح وأندر للشعير فبعث الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض . هذا لفظ ابن جرير رحمه الله وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا مَعْمَر عن همام بن مُنَبِّه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بينما أيوب يغتسل عريانا خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب يحثو في ثوبه فناداه ربه يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى ؟ قال : بلى يا رب ولكن لا غنى بي عن بركتك " . انفرد بإخراجه البخاري من حديث عبد الرزاق به . ولهذا قال تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدٞ وَشَرَابٞ} (42)

وقوله : ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) : ومعنى الكلام : إذ نادى ربه مستغيثا به ، أني مسني الشيطان ببلاء في جسدي ، وعذاب بذهاب مالي وولدي ، فاستجبنا له ، وقلنا له : اركض برجلك الأرض : أي حرّكها وادفعها برجلك ، والركض : حركة الرجل ، يقال منه : ركضت الدابة ، ولا تركض ثوبك برجلك .

وقيل : إن الأرض التي أُمر أيوب أن يركضها برجله : الجابية . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قلا : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ . . . ) الاَية ، قال : ضرب برجله الأرض ، أرضا يقال لها الجابية .

وقوله : ( هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرَابٌ ) : ذُكر أنه نبعت له حين ضرب برجله الأرض عينان ، فشرب من إحداهما ، واغتسل من الأخرى . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ضرب برجله الأرض ، فإذا عينان تنبعان ، فشرب من إحداهما ، واغتسل من الأخرى .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه : ( ارْكُضْ برِجْلكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ) قال : فركض برجله ، فانفجرت له عين ، فدخل فيها واغتسل ، فأذهب الله عنه كلّ ما كان من البلاء .

حدثني بشر بن آدم ، قال : حدثنا أبو قُتيبة ، قال : حدثنا أبو هلال ، قال : سمعت الحسن ، في قول الله : ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ) فركض برجله ، فنبعت عين فاغتسل منها ، ثم مشى نحوا من أربَعين ذراعا ، ثم ركض برجله ، فنبعت عين ، فشرب منها ، فذلك قوله : ( ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ ) .

وعنى بقوله : مُغْتَسَلٌ : ما يُغْتَسل به من الماء ، يقال منه : هذا مُغْتَسل ، وغَسُول للذي يُغتسل به من الماء . وقوله : وَشَرابٌ يعني : ويشرب منه ، والموضع الذي يغتسل فيه يسمى مغتسلاً .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ٱرۡكُضۡ بِرِجۡلِكَۖ هَٰذَا مُغۡتَسَلُۢ بَارِدٞ وَشَرَابٞ} (42)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{اركض} ادفع الأرض {برجلك}... فنبعت عين من تحت قدمه فاغتسل، فيها فخرج منها صحيحا... فذلك قوله: {هذا مغتسل} الذي اغتسل فيها، ثم قال: {بارد وشراب} الذي شرب منه...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

وقوله:"ارْكُضْ بِرِجْلِكَ": ومعنى الكلام: إذ نادى ربه مستغيثا به، أني مسني الشيطان ببلاء في جسدي، وعذاب بذهاب مالي وولدي، فاستجبنا له، وقلنا له: اركض برجلك الأرض: أي حرّكها وادفعها برجلك، والركض: حركة الرجل...

وقوله: "هَذَا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرَابٌ": ذُكر أنه نبعت له حين ضرب برجله الأرض عينان، فشرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى...

وعنى بقوله: "مُغْتَسَلٌ": ما يُغْتَسل به من الماء، يقال منه: هذا مُغْتَسل، وغَسُول للذي يُغتسل به من الماء.

وقوله: "وَشَرابٌ "يعني: ويشرب منه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

جائز أن يكون لما ضرب برجله الأرض وركضها نبع منها عينان، وجائز أن تكون العين واحدة، إلا أنه لما اغتسل منها كان ماؤها ما يوافق الاغتسال، ولما شرب منها كان ماؤها ما يوافق الشرب.

قال بعض أهل التأويل: كان به البلاء بظاهر الجسد وبباطنه؛ فما كان بظاهره ذهب بالاغتسال، وما كان بباطنه ذهب بالشرب.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما تشوف السامع إلى جوابه عن ذلك، استأنف قوله: {اركض} أي قلنا له: اضرب الأرض وأوجد الركض وهو المشي والتحريك والإسراع والاستحثاث.

{برجلك} يخرج منها ماء نافع حسن لتغتسل فيه وتشرب منه ففعل، فأنبعنا له عيناً، فقيل له: {هذا} بإشارة القريب إشارة إلى تسهله.

{مغتسل} ماء يغتسل به وموضعه وزمانه {بارد} أي يبرد حر الظاهر.

{وشراب} يبرد حر الباطن...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{بِرِجْلِكَ} زيادة في بيان معنى الفعل...

{بَارِدٌ} إيماء إلى أن به زوال ما بأيوب من الحمى من القروح، وبالتنوين استُغني عن وصف {شراب} إذ من المعلوم أن الماء شراب؛ فلولا إرادة التعظيم بالتنوين لكان الإِخبار عن الماء بأنه شراب إخباراً بأمر معلوم، ومرجع تعظيم {شراب} إلى كونه عظيماً لأيوب وهو شفاء ما به من مرض.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... كأن الحق سبحانه يقول له: أنا لا أبتليك كراهةً فيك، ولا مشقَّةً عليك، إنما أريد أنْ أسمع منك أنك تكره مَنْ يجيل لك بخاطرك شيئاً يبعدك عني، {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ..} يعني: المسألة عندي سهلة يسيرة كما تقول: يا فلان الأمر هيِّن فهو تحت رجْلَيْك.

والركْض هو القذف بشدة وسرعة، تقول: ركضتُ الفرسَ. يعني: غمزتُه برجلي هكذا من تحت ليسرع، ثم يتجاوز السياق مسألة الركض إلى النتيجة مباشرة {هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} ولم يقل: فركض فخرج الماء كذا وكذا، إنما انطوى هذا كله، واكتفى بالأمر (ارْكُضْ).

والمعنى: أن في هذا الماء مغتسلاً لك وشراباً، لأن المرض الذي أصاب سيدنا أيوب يبدو أنه كان مرضاً جلدياً يترك على بشرته بُثوراً تشوِّه جلده. والآن نرى الأطباء الذين يعالجون الأمراض الجلدية يعالجونها بالمراهم الظاهرية التي تعالج ظاهر المرض، لكن لا تتغلغل إلى علاج سبب المرض الداخلي.

فكان من رحمة الله بسيدنا أيوب أنْ جعل شفاءه الظاهري والباطني في ركضة واحدة تخرج الماء، فيغتسل منه مُغتسلاً بارداً، يشفي ظاهر مرضه وشراب يشفي أسباب المرض في داخل جسمه.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} فقد انتهى عهد البلاء الذي كنت فيه مصلوباً على فراشك مشدوداً إلى البلاء، واقعاً تحت تأثير الآلام والأوجاع التي تمنعك من التنظيف والاغتسال، وعافيتك ستتحقق عندما تضرب الأرض بقدمك، مما سيفجر عيناً باردة صافية.

{هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} تغتسل وتشرب منه، لتشعر بكرامة الله وبرعايته وبرزقه الذي يغدقه عليك من حيث لا تحتسب، كدلالةٍ على محبته ولطفه ورحمته وعنايته بك...