قوله تعالى : { أفبهذا الحديث } يعني القرآن ، { أنتم } ، يا أهل مكة ، { مدهنون } قال ابن عباس : مكذبون . وقال مقاتل بن حيان : كافرون ، نظيره : { ودوا لو تدهن فيدهنون }( القلم- 9 ) ، والمدهن والمداهن : الكذاب والمنافق ، وهو من الإدهان ، وهو الجري في الباطن على خلاف الظاهر ، هذا أصله ، ثم قيل للمكذب : مدهن ، وإن صرح بالتكذيب والكفر .
الفاء تفريع على ما سِيق لأجله الكلام الذي قبلها في غرضه من التنويه بشأن القرآن ، وهو الذي بِحذو الفاء ، أو من إثبات البعث والجزاء وهو الذي حواه معظم السورة ، وكان التنويهُ بالقرآن من مسبَّبَاته .
وأطبق المفسرون عدا الفخر على أن اسم الإشارة وبيانه بقوله : { فبهذا الحديث } مشير إلى القرآن لمناسبة الانتقال من التنويه بشأنه إلى الإِنكار على المكذبين به . فالتفريع على قوله : { إنه لقرآن كريم } [ الواقعة : 77 ] الآية .
والمراد ب { الحديث } إخبار الله تعالى بالقرآن وإرادة القرآن من مثل قوله : { أفبهذا الحديث } واردة في القرآن ، أي في قوله في سورة القلم ( 44 ) { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } وقوله في سورة النجم ( 59 ) { أفمن هذا الحديث تعجبون } ويكون العدول عن الإضمار إلى اسم الإشارة بقوله : { أفبهذا الحديث } دون أن يقول : أفَبِهِ أنتم مُدْهنون ، إخراجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر لتحصل باسم الإشارة زيادة التنويه بالقرآن .
وأما الفخر فجعل الإِشارة من قوله : { أفبهذا الحديث } إشارة إلى ما تحدثوا به من قبل في قوله تعالى : { وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً إنا لمبعوثون أو آباؤنا الأولون } [ الواقعة : 47 ، 48 ] ، فإن الله رد عليهم ذلك بقوله : { قل إن الأولين والآخرين } [ الواقعة : 49 ] الآية . وبين أن ذلك كله إخبار من الله بقوله : { إنه لقرآن كريم } [ الواقعة : 77 ] ثم عاد إلى كلامهم فقال : أفبهذا الحديث الذي تتحدثون به أنتم مدهنون لأصحابكم اه ، أي على معنى قوله تعالى : { وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا } [ العنكبوت : 25 ] .
وإنه لكلام جيّد ولو جَعل المراد من ( هذا الحديث ) جميع ما تقدم من أول السورة أصلاً وتفريعاً ، أي من هذا الكلام الذي قرع أسماعكم ، لكان أجود . وإطلاق الحديث على خبر البعث أوضح لأن الحديث يراد به الخبر الذي صار حديثاً للقوم .
والتعريف في { الحديث } على كلا التفسيرين تعريف العهد .
والمُدهِن : الذي يُظهر خلاف ما يبطن ، يقال : أدهن ، ويقال : دَاهنَ ، وفسر أيضاً بالتهاون وعدم الأخذ بالحزم ، وفسر بالتكذيب .
والاستفهام على كل التفاسير مستعمل في التوبيخ ، أي كلامكم لا ينبغي إلا أن يكون مداهنة كما يقال لأحد قال كلاماً باطلاً : أتهزأ ، أي قد نهض برهان صدق القرآن بحيث لا يكذب به مكذب إلا وهو لا يعتقد أنه كذب لأن حصول العلم بما قام عليه البرهان لا يستطيع صاحبُه دفعه عن نفسه ، فليس إصراركم على التكذيب بعد ذلك إلا مداهنة لقومكم تخشون إن صدّقتم بهذا الحديث أن تزول رئاستكم فيكون في معنى قوله تعالى : { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } [ الأنعام : 33 ] .
وعلى تفسير { مدهنون } بمعنى الإِلانة ، فالمعنى : لا تتراخوا في هذا الحديث وتدبروه وخذوا بالفور في اتباعه .
وإن فسر { مدهنون } بمعنى : تكذبون ، فالمعنى واضح .
وتقديم المجرور للاهتمام ، وصوغ الجملة الاسمية في { أنتم مدهنون } لأن المقرّر عليه إدْهان ثابت مستمرّ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أفبهذا الحديث} يعني القرآن {أنتم مدهنون} يعني تكفرون، مثل قوله: {ودوا لو تدهن فيدهنون} [القلم:9]...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أفبهذا القرآن الذي أنبأتكم خبره، وقصصت عليكم أمره أيها الناس أنتم تلينون القول للمكذّبين به، ممالأة منكم لهم على التكذيب به والكفر... وقال آخرون: بل معناه: أفبهذا الحديث أنتم مكذّبون...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
المدهن الذي لا يفعل ما يحق عليه ويدفعه بالعلل...
المدهن: المنافق الذي ليّن جانبه ليخفي كفره. وقال بعض أئمّة اللغة: مدهنون أي تاركون للحزم في قبول هذا القرآن والتهاون بأمره.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
يقول الله تعالى مخاطبا للمكلفين على وجه التقريع لهم والتوبيخ بصورة الاستفهام "أفبهذا الحديث " الذي حدثناكم به وأخبرناكم به من حوادث الأمور... وسماه الله تعالى حديثا كما قال " الله نزل احسن الحديث كتابا متشابها " ومعناه معنى الحدوث شيئا بعد شيء... والمدهن الذي يجري في الباطل على خلاف الظاهر، كالدهن في سهولة ذلك عليه والإسراع فيه، أدهن يدهن إدهانا وداهنه مداهنة مثل نافقه منافقة، وكل مدهن بصواب الحديث مذموم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{مدهنون}... وقال ابن عباس: هو المهاودة فيما لا يحل. والمداراة هي المهاودة فيما يحل.
{أفبهذا الحديث} الذي تتحدثون به {أنتم مدهنون} لأصحابكم تعلمون خلافه وتقولونه، أم أنتم به جازمون، وعلى الإصرار عازمون...والتحقيق فيه أن الإدهان: تليين الكلام لاستمالة السامع من غير اعتقاد صحة الكلام من المتكلم كما أن العدو إذا عجز عن عدوه يقول له أنا داع لك ومثن عليك مداهنة وهو كاذب، فصار استعمال المدهن في المكذب استعمالا ثانيا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{أفبهذا} ولما كان الإنسان مغرماً بما يجدد له من النعم ولو هان فكيف إذا كان أعلى النعم قال: {الحديث} أي الذي تقدمت أوصافه العالية وهو متجدد إليكم إنزاله وقتاً بعد وقت {أنتم} أي وأنتم العرب الفصحاء والمفوهون البلغاء {مدهنون} أي كذابون منافقون بسببه تظهرون غير ما تبطنون أنه كذاب وأنتم تعلمون صدقه بحسن معانيه، وعجزكم عن مماثلته في نظومه ومبانيه، وتقولون: لو شئنا لقلنا مثل هذا: وجميع أفعالكم تخالف هذا فإنكم تصبرون لوقع السيوف ومعانقة الحتوف، ولا تأتون بشيء يعارضه يبادئ شيئاً منه أو يناقضه. أو تلاينون أيها المؤمنون من يكذب به ويطعن في علاه أو يتوصل ولو على وجه خفي إلى نقض شيء من عراه، تهاوناً به ولا يتصلبون في تصرفه تعظيماً لأمره حتى يكونوا أصلب من الحديد...
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.