قوله تعالى : { والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين } قرأ نافع ويعقوب أن خفيفة وكذلك الثانية لعنة الله رفع ، ثم يعقوب قرأ غضب بالرفع ، وقرأ نافع غضب بكسر الضاد وفتح الباء على الماضي الله رفع ، وقرأ الآخرون ( أن ) بالتشديد فيهما ، لعنة نصب ، وغضب بفتح الضاد على الاسم ، الله جر ، وقرأ حفص عن عاصم والخامسة الثانية نصب ، أي : ويشهد الشهادة الخامسة ، وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وخبره في إن كالأولى . وسبب نزول هذه الآية .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك عن ابن شهاب : " أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له : يا عاصم أرأيت لو أن رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه ، أم كيف يفعل ؟ سل لي عن ذلك يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رجل عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال له : يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عاصم لعويمر ، لم تأتني بخبر ، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها ، فقال عويمر ، والله لا أنتهي حتى أسأله عنها ، فجاء عويمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس فقال : يا رسول الله أرأيت رجلاً وجد مع امرأته رجلاً أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها ، فقال سهل : فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغا من تلاعنهما قال عويمر : كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها ، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم " . قال مالك قال ابن شهاب : فكانت تلك سنة المتلاعنين . وقال محمد بن إسماعيل أنبأنا إسحاق ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا الأوزاعي ، أنبأنا الزهري ، بهذا الإسناد بمثل معناه وزاد : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انظروا فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين ، خدلج الساقين ، فلا أحسب عويمراً إلا قد صدق عليها ، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة ، فلا أحسب عويمر إلا قد كذب عليها ، فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصديق عويمر . فكان بعد ينسب إلى أمه " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا محمد بن عبد الله التميمي ، أنبأنا أحمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن بشار ، أنبأنا ابن أبي عدي ، عن هشام بن حسان ، أنبأنا عكرمة ، عن ابن عباس ، " أن هلال بن أمية قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : البينة أو حد في ظهرك ، فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة ؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : البينة وإلا حد في ظهرك ، فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد ، فنزل جبريل وأنزل عليه : { والذين يرمون أزواجهم } فقرأ حتى بلغ { إن كان من الصادقين } فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب ؟ ثم قامت فشهدت فلما كانت عند الخامسة وقفوها وقالوا إنها موجبة ، قال ابن عباس فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم ، فمضت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين ، سابغ الأليتين ، خدلج الساقين ، فهو لشريك بن سحماء ، فجاءت به كذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن " . وروى عكرمة عن ابن عباس : قال لما نزلت : { والذين يرمون المحصنات } الآية . قال سعد بن عبادة : " لو أتيت لكاع وقد تفخذها رجل لم يكن لي أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله ما كنت لآتي بأربعة شهداء حتى يفرغ من حاجته ويذهب ، وإن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما قال سيدكم ؟ قالوا : لا تلمه ، فإنه رجل غيور ، ما تزوج امرأة قط إلا بكراً ، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها ، فقال سعد : يا رسول الله بأبي أنت وأمي والله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكن عجبت من ذلك لما أخبرك الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فإن الله يأبى إلا ذلك ، فقال صدق الله ورسوله ، قال : فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية من حديقة له ، فرأى رجلاً مع امرأته يزني بها ، فأمسك حتى أصبح ، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس مع أصحابه ، فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاءً فوجدت رجلاً مع امرأتي ، رأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أتاه به ، وثقل عليه حتى عرف ذلك في وجهه ، فقال هلال : والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أتيتك به ، والله يعلم إني لصادق وما قلت إلا حقاً ، وإني لأرجو أن يجعل الله لي فرجاً ، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بضربه ، قال : واجتمعت الأنصار فقالوا ابتلينا بما قال سعد ، أيجلد هلال وتبطل شهادته ؟ وإنهم لكذلك ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه ، إذ نزل عليه الوحي ، فأمسك أصحابه عن كلامه حين عرفوا أن الوحي قد نزل عليه ، حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمسكوا ، فأنزل الله عز وجل : { والذين يرمون أزواجهم } إلى آخر الآيات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبشر يا هلال فإن الله قد جعل لك فرجاً فقال : لقد كنت أرجو ذلك من الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسلوا إليها ، فجاءت ، فلما اجتمعا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل لها فكذبت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب ؟ فقال هلال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي قد صدقت وما قلت إلا حقاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعنوا بينهما ، فقيل لهلال : اشهد ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فقال له عند الخامسة : يا هلال اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس ، وإن هذه الخامسة هي الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فقال هلال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشهد الخامسة : أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم قال للمرأة : اشهدي ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فقال لها عند الخامسة ووقفها : اتقي الله فإن الخامسة موجبة وإن عذاب الله أشد من عذاب الناس ، فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ثم قالت : والله لا أفضح قومي ، فشهدت الخامسة : أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى بأن الولد لها ولا يدعى لأب ولا يرمى ولدها ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن جاءت به كذا وكذا فهو لزوجها وإن جاءت به كذا وكذا فهو للذي قيل فيه ، فجاءت به غلاماً كأنه جمل أورق ، على الشبه المكروه ، وكان بعد أميراً على مصر ، لا يدري من أبوه " . وقال ابن عباس في سائر الروايات ، ومقاتل : لما نزلت : { والذين يرمون المحصنات } الآية ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر فقام عاصم بن عدي الأنصاري فقال : جعلني الله فداك ، إن رأى رجل منا مع امرأته رجلاً فأخبر بما رأى جلد ثمانين جلدة ، وسماه المسلمون فاسقا ، ولا تقبل شهادته أبداً ، فكيف لنا بالشهداء ونحن إذا التمسنا الشهداء كان الرجل فرغ من حاجته ومر ، وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له : عويمر ، وله امرأة يقال لها : خولة بنت قيس بن محصن ، فأتى عويمر عاصماً وقال : لقد رأيت شريك بن السمحاء على بطن امرأتي خولة ، فاسترجع عاصم ، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة الأخرى ، فقال : يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بالسؤال الذي سألت في الجمعة الماضية في أهل بيتي ، فأخبره وكان عويمر وخولة وشريك كلهم بني عم عاصم ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم جميعاً ، وقال لعويمر : اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها بالبهتان فقال : يا رسول الله أقسم بالله إني رأيت شريكاً على بطنها وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر ، وإنها حبلى من غيري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمرأة : اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت فقالت : يا رسول الله إن عويمراً رجل غيور ، وإنه رآني وشريكاً يطيل السمر ونتحدث ، فحملته الغيرة على ما قال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لشريك : ما تقول ؟ فقال : ما تقوله المرأة كذب ، فأنزل الله عز وجل : { والذين يرمون أزواجهم } الآية ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نودي الصلاة جامعة ، فصلى العصر ثم قال لعويمر : قم ، فقام فقال : أشهد بالله بأن خولة زانية وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثانية أشهد بالله إني رأيت شريكاً على بطنها ، وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الثالثة أشهد بالله إنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الرابعة أشهد بالله إني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين ، ثم قال في الخامسة : لعنة الله على عويمر : يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قال ، ثم أمره بالقعود ، وقال لخولة : قومي فقامت ، فقالت : أشهد بالله ما أنا بزانية وإن عويمر لمن الكاذبين ، ثم قالت في الثانية أشهد بالله إنه ما رأى شريكاً على بطني وإنه لمن الكاذبين ، ثم قالت في الثالثة أشهد بالله إني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين ، ثم قالت في الرابعة أشهد بالله إنه ما رآني قط على فاحشة وإنه لمن الكاذبين ، ثم قالت في الخامسة غضب الله على خولة تعني نفسها إن كان من الصادقين . ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقال لولا هذه الأيمان لكان لي في أمرهما رأي ، ثم قال : تحينوا بها الولادة فإن جاءت به أصيهب أثيبج يضرب إلى السواد فهو لعويمر ، وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين فهو للذي رميت به . قال ابن عباس : فجاءت أشبه خلق الله بشريك " . والكلام في حكم الآية : أن الرجل إذا قذف امرأته فموجبه موجب قذف الأجنبي في وجوب الحد عليه إن كانت محصنة ، أو التعزير إن لم تكن محصنة ، غير أن المخرج منهما مختلف ، فإذا قذف أجنبياً يقام الحد عليه ، إلا أن يقيم أربعة من الشهود على زناه ، أو يقر به المقذوف فيسقط عنه حد القذف ، وفي الزوجة إذا وجد أحد هذين أو لاعن يسقط عنه الحد ، فاللعان في قذف الزوجة بمنزلة البينة ، لأن الرجل إذا رأى مع امرأته رجلاً ربما لا يمكنه إقامة البينة عليه ولا يمكنه الصبر على العار ، فجعل الله اللعان حجة له على صدقه ، فقال تعالى : { فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين } وإذا أقام الزوج البينة على زناها أو اعترفت بالزنا سقط عنه الحد واللعان ، إلا أن يكون هناك ولد يريد نفيه فله أن يلاعن لنفيه . وإذا أراد الإمام أن يلاعن بينهما يبدأ فيقيم الرجل ويلقنه كلمات اللعان ، فيقول : قل أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به فلانة بالزنا ، وإن كان قد رماها برجل بعينه سماه بعينه باللعان ، وإن رماها بجماعة سماهم ، ويقول الزوج كما يلقنه الإمام ، وإن كان ولد أو حمل يريد نفيه يقول : وإن هذا الولد أو الحمل لمن الزنا ما هو مني ، ويقول في الخامسة : علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة ، وإذا أتى بكلمة منها من غير تلقين الحاكم لا تكون محسوبة ، فإذا فرغ الرجل من اللعان وقعت الفرقة بينه وبين زوجته وحرمت عليه على التأييد ، وانتفى عنه النسب وسقط عنه حد القذف ، ووجب على المرأة حد الزنا ، إن كانت محصنة ترجم ، وإن كانت غير محصنة تجلد وتغرب ، فهذه خمسة أحكام تتعلق كلها بلعان الزوج .
هذه الآية الكريمة فيها فَرَج للأزواج وزيادة مخرج ، إذا قذف أحدهم زوجته وتعسر عليه إقامة البينة ، أن يلاعنها ، كما أمر الله عز وجل{[20798]} وهو أن يحضرها إلى الإمام ، فيدعي عليها بما رماها به ، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء ، { إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ } أي : فيما رماها به من الزنى ، { وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } فإذا قال ذلك ، بانت منه بنفس هذا اللعان عند الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وحرمت عليه أبدًا ، ويعطيها مهرها ، ويتوجه عليها حد الزنى ، ولا يدرأ عنها العذاب إلا أن تلاعن ، فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، أي : فيما رماها به ، { وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } ولهذا قال : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ }
يعني : الحد ، { أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فخصها بالغضب ، كما أن الغالب أن الرجل لا ا فضيحة أهله ورميها بالزنى إلا وهو صادق معذور ، وهي تعلم صدقه فيما رماها به . ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها . والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه .
ثم ذكر تعالى لطفه بخلقه ، ورأفته بهم ، وشرعه{[20799]} لهم الفرج والمخرج من شدة ما يكون فيه من الضيق ، فقال : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي : لحرجتم{[20800]} ولشق عليكم كثير من أموركم ، { وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ } [ أي ]{[20801]} : على عباده - وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة - { حَكِيمٌ } فيما يشرعه{[20802]} ويأمر به وفيما ينهى عنه .
وقد وردت الأحاديث بمقتضى العمل بهذه الآية ، وذكر سبب نزولها ، وفيمن نزلت فيه من الصحابة ، فقال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، أخبرنا عَبَّاد بن منصور ، عن عكْرمَة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } ، قال سعد بن عبادة - وهو سيد الأنصار - : هكذا أنزلت يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " : يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ؟ " قالوا : يا رسول الله ، لا تَلُمه فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج امرأة قَطّ [ إلا بكرًا ، وما طلق امرأة له قط ]{[20803]} فاجترأ رجل منا أن يتزوجها ، من شدة غيرته . فقال سعد : والله - يا رسول الله - إني لأعلم أنها حق وأنها من الله ، ولكني قد تعجَبت أني لو وجدت لَكاعًا قد تَفَخَّذها رجل ، لم يكن لي أن أهيّجه ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء ، فوالله لا آتي بهم حتى يقضي حاجته . قال : فما لبثوا إلا يسيرًا حتى جاء هلال بن أمية - وهو أحد الثلاثة الذين تِيبَ عليهم - فجاء من أرضه عشاء ، فوجد عند أهله رجلا فرأى بعينيه ، وسمع بأذنيه ، فلم يُهَيّجه حتى أصبح ، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء ، فوجدتُ عندها رجلا فرأيت بعيني ، وسمعت بأذني . فَكَرِهَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به ، واشتدّ عليه ، واجتمعت الأنصار فقالوا{[20804]} : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة ، الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلالَ بن أمية ، ويبْطل شهادته في المسلمين{[20805]} . فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجًا . وقال هلال : يا رسول الله ، إني قد أرى ما اشتد عليك مما{[20806]} جئت به ، والله يعلم إني لصادق . فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه ، إذ أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي - وكان إذا نزل عليه الوحي عرفوا ذلك ، في تَرَبُّد وجهه{[20807]} . يعني : فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي - فنزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ }{[20808]} الآية ، فَسُرّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أبشر يا هلال ، قد جعل الله لك فرجًا ومخرجًا " . فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي ، عز وجل . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسلوا إليها " .
فأرسلوا إليها ، فجاءت ، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما ، وذكرهما وأخبرهما أن عذابَ الآخرة أشدّ من عذاب الدنيا . فقال هلال : والله - يا رسول الله - لقد صَدَقتُ عليها . فقالت : كذب . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لاعنوا بينهما " . فقيل لهلال : اشهد . فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فلما كان في الخامسة قيل له : يا هلال ، اتق الله ، فإن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبةُ التي توجب عليك العذاب . فقال : والله لا يعذبني الله عليها ، كما لم يجلدني عليها . فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم قيل [ لها : اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، فلما كانت الخامسة قيل ]{[20809]} لها : اتقي الله ، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبةُ التي توجب عليك العذاب . فتلكأت ساعة ، ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى ألا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ، وقضى ألا [ بيت لها عليه ولا ]{[20810]} قوت لها ، من أجل أنهما يتفرقان من غير طلاق ، ولا مُتَوَفى عنها . وقال : " إن جاءت به أصَيْهِب أرَيسح حَمْش الساقين فهو لهلال ، وإن جاءت به أورق جَعدًا جَمَاليًّا خَدلَّج الساقين سابغ الأليتين ، فهو الذي رميت به " فجاءت به أورق جعدا جماليًّا خدلج الساقين سابغ الأليتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " .
قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميرًا على مصر ، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب .
ورواه أبو داود عن الحسن بن عليّ ، عن يزيد{[20811]} بن هارون ، به نحوه مختصرًا{[20812]} .
ولهذا الحديث شواهد كثيرة في الصحاح وغيرها من وجوه كثيرة . فمنها ما قال البخاري : حدثني محمد بن بَشَّار ، حدثنا ابن أبي عَدِيّ ، عن هشام بن حسان ، حدثني عِكْرِمَة ، عن ابن عباس ؛ أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشَرِيك بن سَحْماء ، فقال رسول الله{[20813]} صلى الله عليه وسلم : " البينة أو حَدُّ في ظهرك " فقال : يا رسول الله ، إذا أري{[20814]} أحدنا على امرأته رجلا ينطلقُ يلتمس البينة ؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " البينة وإلا حدّ في ظهرك " . فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ، ولينزلن{[20815]} الله ما يُبرئ ظهري{[20816]} من الحد . فنزل جبريل ، وأنزل{[20817]} عليه : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } ، فقرأ حتى بلغ : { إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما ، فجاء هلال فشهد ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : " الله يشهد أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب " ؟ ثم قامت فشهدت ، فلما كانت عند الخامسة وَقَّفُوها وقالوا : إنها مُوجبة . قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم . فمضت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أبْصِرُوها ، فإن جاءت به أكحلَ العينين ، سابغ الأليتين ، خَدَلَّج الساقين ، فهو لشَرِيك بن سَحْمَاءَ " . فجاءت به كذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لولا ما مضى من كتاب الله ، لكان لي ولها شأن " .
انفرد به البخاري من هذا الوجه{[20818]} وقد رواه من غير وجه ، عن ابن عباس وغيره .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الزيادي{[20819]} حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا صالح - وهو ابن عمر - حدثنا عاصم - يعني : ابن كُلَيْب - ، عن أبيه ، حدثني ابن عباس قال : جاء رجل إلى رسول الله ، فرمى امرأته برجل ، فكره ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يُرَدّده حتى أنزل الله : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ [ إِلا أَنْفُسُهُمْ ] } {[20820]} [ فقرأ ]{[20821]} حتى فرغ من الآيتين ، فأرسل إليهما فدعاهما ، فقال : " إن الله ، عَزّ وجل ، قد أنزل فيكما " . فدعا الرجل فقرأ عليه ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين . ثم أمر به فأمسك على فيه فوعظه ، فقال له : " كل شيء أهون عليه من لعنة الله " . ثم أرسله فقال : { لَعْنتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } ثم دعاها بها ، فقرأ عليها ، فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، ثم أمر بها فأمسك على فيها فوعظها ، وقال : " ويحك . كل شيء أهون من غضب الله " . ثم أرسلها ، فقالت : { غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أما والله لأقضينّ بينكما قضاء فصلا " . قال : فولدت ، فما رأيت مولودًا بالمدينة أكثر غاشية منه ، فقال : " إن جاءت به لكذا وكذا فهو كذا ، وإن جاءت به لكذا وكذا فهو لكذا " . فجاءت به يشبه الذي قُذفت به .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال : سمعت سعيد بن جُبَير قال : سُئلْتُ عن المتلاعنين أيفرّق بينهما - في إمارة ابن الزبير ؟ فما دَرَيتُ ما أقول ، فقمت من مكاني إلى منزل ابن عمر فقلتُ : أبا عبد الرحمن ، المتلاعنان أيفرق بينهما ؟ فقال : سبحان الله ، إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل يرى امرأته على فاحشة فإن تَكَلَّم تكلم بأمر عظيم ، وإن سكت سكت على مثل ذلك . فسكت فلم يجبه ، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال : الذي سألتك عنه قد ابتُليت به . فأنزل الله عز وجل هذه الآيات{[20822]} في سورة النور : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } حتى بلغ : { أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ } . فبدأ بالرجل فوعظه وذكَّره ، وأخبره أن عذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة ، فقال : والذي بعثك بالحق ما كَذَبْتُك . ثم ثنى بالمرأة فوعظها وذَكَّرها ، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فقالت : والذي بعثك بالحق{[20823]} إنه لكاذب . قال : فبدأ بالرجل ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ، ثم فَرَّقَ بينهما .
رواه النسائي في التفسير ، من حديث عبد الملك بن أبي سليمان ، به{[20824]} وأخرجاه في الصحيحين من حديث سعيد بن جبير ، عن ابن عباس{[20825]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن حماد ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : كنَّا جلوسًا عشية الجمعة في المسجد ، فقال رجل من الأنصار : أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت عن غيظ ؟ والله لَئن أصبحت صالحًا لأسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فسأله . فقال : يا رسول الله ، إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلا فقتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت على غيظ ؟ اللهم احكم . قال : فأنزل آية اللعان ، فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به .
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه من طُرُق ، عن سليمان بن مِهْران الأعمش ، به{[20826]} .
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو كامل : حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثنا ابن شهاب ، عن سهل بن سعد ، قال : جاء عُوَيْمر إلى عاصم بن عَدِيّ فقال : سَلْ رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت رجلا وجد رجلا مع امرأته فقتله ، أيقتل به أم كيف يصنع ؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعابَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم المسائل . قال : فلقيه عُوَيمر فقال : ما صنعْتَ ؟ قال : ما صنعت ! إنك لم تأتني بخير ؛ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب المسائل فقال عُوَيمر : والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلأسألنه . فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيهما . قال : فدعا بهما فَلاعَن بينهما . قال عُوَيمر : لئن انطلقتُ بها يا رسول الله لقد كذبت عليها . قال : ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فصارت سنة المتلاعنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أبصروها ، فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين ، فلا أراه إلا قد صدق ، وإن جاءت به أحيمر كأنه وَحَرَة فلا أراه إلا كاذبًا " . فجاءت به على النعت المكروه .
أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة إلا الترمذي ، من طرق ، عن الزهري ، به{[20827]} .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إسحاق بن الضيف ، حدثنا النضر بن شُمَيْل ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن زيد{[20828]} بن يُثَيْع ، عن حذيفة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : " لو رأيت مع أم رومان رجلا ما كنت فاعلا به ؟ قال : كنت والله فاعلا به شرًا . قال : " فأنتَ يا عمر ؟ " . قال : كنتُ والله فاعلا كنت أقول : لعن الله الأعجز ، وإنه خبيث . قال : فنزلت : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ }
ثم قال : لا نعلم أحدًا أسنده إلا النَّضر بن شُميْل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، ثم رواه من حديث الثوري عن [ أبي ]{[20829]} أبي إسحاق ، عن زيد بن يُثَيْع مرسلا فالله أعلم{[20830]} .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا مسلم بن أبي مسلم الجَرْمي ، حدثنا مُخَلَّدُ بن الحسين ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : لأول لعان كان في الإسلام أن شَرِيكَ بن سَحْمَاء قذَفه هلال بن أمية بامرأته ، فرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربعة شهود وإلا فَحَدٌّ في ظهرك " ، فقال : يا رسول الله ، إن الله يعلم إني لصادق ، ولينزلن الله عليك ما يبرئ به ظهري من الجلد . فأنزل الله آية اللعان : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنْفُسُهُمْ } إلى آخر الآية . قال : فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنى " فشهد بذلك أربع شهادات ، ثم قال له في الخامسة : " ولعنة الله عليك إن كنتَ من الكاذبين فيما رميتها به من الزنى " ، ففعل . ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنى " . فشهدت بذلك أربع شهادات ، ثم قال لها في الخامسة : " وغَضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنى " ، فقالت : فلما كانت الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة ، حتى ظنوا أنها ستعترف ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم . فمضت على القول ، ففرَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقال : " انظروه ، فإن جاءت به جَعْدًا حَمْشَ الساقين ، فهو لشَرِيك بن سَحْماء ، وإن جاءت به أبيض سبطا فَضيء{[20831]} العينين فهو لهلال بن أمية " . فجاءت به آدَمَ جَعَدًا حَمْش الساقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لولا ما نزل فيهما من كتاب الله ، لكان لي ولها شأن " {[20832]} .
لما نزلت الآية المتقدمة في { الذين يرمون } [ النور : 4 ] تناول ظاهرها الأَزواج وغيرهن ، فقال سعد بن عبادة يا رسول الله إن وجدت مع امرأتي رجلاً أمهله حتى آتي بأربعة والله لأضربنه بالسيف غير مصفح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني »{[8608]} ، وفي ألفاظ سعد روايات مختلفة هذا نحو معناها ، ثم جاء بعد ذلك هلال بن أمية الواقفي فرمى زوجته بشريك ابن سحماء البلوي ، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ضربه حد القذف ، فنزلت هذه الآية عند ذلك فجمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، وتلاعنا فتلكأت المرأة عند الخامسة لما وعظت ، وقيل إنها موجبة ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم ولجت ، وفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وولدت غلاماً كأنه جمل أورق{[8609]} ثم كان بعد ذلك الغلام أميراً بمصر وهو لا يعرف لنفسه أباً . ثم جاءه أيضاً عويمر العجلاني فرمى امرأته ولاعن{[8610]} . والمشهور أن نازلة هلال قبل وأنها سبب الآية ، وقيل نازلة عويمر قبل وهو الذي وسط إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصم بن عدي{[8611]} ، و «الأزواج » في هذا الحكم يعم المسلمات والكافرات والإماء ، فكلهن يلاعنهن الزوج للانتفاء من الحمل ، وتختص الحرة بدفع حد القذف عن نفسه{[8612]} ، وقرأ الجمهور «أربعَ شهادات » بالنصب وهو كانتصاب المصدر والعامل في ذلك قوله { فشهادة } ورفع «الشهادة » على خبر ابتداء تقديره فالحكم أو فالواجب ، أو على الابتداء بتقدير فعليهم أن يشهدوا وبتقدير حذف الخبر وتقديره في آخر الآية كافية أو واجبة ، وقوله { بالله } من صلة { شهادات } ، ويجوز أن يكون من صلة { فشهادة } ، وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم «أربعُ » بالرفع وذلك على خبر قوله { فشهادة } قال أبو حاتم لا وجه للرفع لأن الشهادة ليست ب { أربع شهادات } و { بالله } على هذه القراءة من صلة { شهادات } ، ولا يجوز أن يكون من صلة «شهادة » لأنك كنت تفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو { أربع شهادات } ، وقوله : { إنه لمن الكاذبين } في قول من نصب «أربعَ شهادات » يجوز أن تكون من صلة «شهادة » وهي جملة في موضع نصب ، لأن الشهادة أوقعتها موقع المفعول به ، ومن رفع «أربعُ شهادات » فقوله { إنه لمن الكاذبين } من صلة { شهادات } لعلة الفصل المتقدمة في قوله { بالله } ، وقرأ حفص عن عاصم «والخامسةَ » بالنصب في الثانية ، وقرأها بالنصب فيهما طلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن والحسن والأعمش ، وقرأ الجمهور فيهما «والخامسةُ » بالرفع ، فأما من نصب فإن كان من قراءته نصب قوله «أربعَ شهدات » فإنه عطف الخامسة على ذلك لأنها من الشهادات ، وأن كان يقرأ «أربعُ » بالرفع ، فإنه جعل نصب قوله ، والخامسة على فعل يدل عليه متقدم الكلام تقديره وتشهد الخامسة ، وأما من رفع قوله «والخامسةُ » فإن كان يقرأ «أربعُ » بالرفع فقوله «والخامسةُ » عطف على ذلك ، وإن كان يقرأ «أربعَ » بالنصب فإنه حمل قوله «والخامسةُ » على المعنى لأن معنى قوله شهادة أحدهم عليهم أربع شهادات والخامسة واستشهد أبو علي لهذا بحمل الشاعر : [ الكامل ]
ومشجج أما سواد قذاله . . . البيت على قوله : «إلا رواكد جمرهن هباء »{[8613]} لأن المعنى ثم رواكد ولا خلاف في السبع في رفع قوله «والخامسةُ » في الأولى ، وإنما خلاف السبع في الثانية فقط فنصبه حمل على قوله { أن تشهد أربع }
{ والخامسة } على القطع والحمل على المعنى{[8608]} ، وقرأ نافع وحده «أن لعنة »{[8609]} و «أنَّ غضب »{[8610]} ، وقرأ الأعرج والحسن وقتادة وأبو رجاء وعيسى «أَن لعنة »{[8611]} و «أن غضب الله »{[8612]} وهذا على إضمار الأمر وهي المخففة كما هي في قول الشاعر : «في فتية كسيوف الهند قد علموا أن هالك كل من يحفى ينتعل{[8613]} ، البيت » وقرأ باقي السبعة «أنّ لعنة الله » «وأنّ غضب الله » بتشديد النون فيهما ونصب «اللعنة والغضب » ورجح الأخفش القراءة بتثقيل النون لأن الخفيفة إنما يراد بها التثقيل ويضمر معها الأمر والشأن وما لا يحتاج معه إلى إضمار أولى .
قال الفقيه الإمام القاضي : لا سيما وأن الخفيفة على قراءة نافع في قوله «أن غضب » قد وليها الفعل ، قال أبو علي وأهل العربية يستقبحون أن يليها الفعل إلا أن يفصل بينها وبينه بشيء نحو قوله تعالى { علم أن سيكون }{[7]} [ المزمل : 20 ] وقوله : { أَفلا يرون ألا يرجع }{[8]} [ طه : 89 ] وأما قوله تعالى : { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى }{[9]} [ النجم : 39 ] فذلك لقلة تمكن ليس في الأفعال وأما قوله : { أن بورك من في النار }{[10]} [ النمل : 8 ] ف { بورك } على معنى الدعاء فلم يجز دخول الفاصل لئلا يفسد المعنى{[11]} ، و «العذاب الُمْدَرُأ » في قول جمهور العلماء الحد وحكى الطبري عن آخرين أنه الحبس وهو قول أصحاب الرأي وأَنه لا حد عليها إن لم تلاعن وليس يوجبه عليها قول الزوج .
قال الفقيه الإمام القاضي : وظاهر حديث الوقفة في الخامسة حين تلكأت ثم مرت في لعانها أَنها كانت تحِّد لقول النبي عليه السلام لها فعذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة{[12]} وجعلت «اللعنة » للرجل الكاذب لأنه مفتر مباهت بالقول فأبعد باللعنة وجعل «الغضب » الذي هو أشد على المرأة التي باشرت المعصية بالفعل ثم كذبت وباهتت بالقول فهذا معنى هذه الألفاظ والله أَعلم .
قال الفقيه الإمام القاضي : ولا بد أَن نذكر في تفسير هذه الآية ما يتعلق بها من مسائل اللعان إذ لا يستغنى عنها في معرفة حكمه وحيث يجب ، أجمع مالك وأَصحابه على وجوب اللعان بادعاء رؤية زنى لا وطء من الزوج بعده{[13]} ، وكذلك مشهور المذهب ، وقول مالك إن اللعان يحب بنفي حمل يدعى قبله استبراء ، وحكى اللخمي عن مالك أنه قال مرة : لا ينفى الولد بالاستبراء لأَن الحيض يأتي على الحمل ، وقاله أشهب في كتاب ابن المواز ، وقاله المغيرة ، وقال لا ينفى الولد إلا بخمس سنين{[14]} ، واختلف المذهب في أن يقذف الرجل أو ينفي حملاً ولا يعلل ذلك لا برؤية ولا باستبراء ، فجل رواة مالك لا يوجب لعاناً بل يحد الزوج ، وقاله ابن القاسم وروي عنه أيضاً أنه قال يلاعن ولا يسأل عن شيء{[15]} ، واختلف بعد القول بالاسبتراء في قدر الاستبراء ، فقال مالك والمغيرة في أحد قوليه يجزىء في ذلك حيضة . وقال أيضاً مالك لا ينفعه إلا ثلاث حيض{[16]} ، وأما موضع اللعان ففي المسجد وعند الحاكم والمستحب أن يكون في المسجد بحضرة الحاكم ، وكذلك يستحب [ أن يكون ]{[17]} بعد العصر تغليظاً بالوقت وكل وقت مجز ، ومن قذف امرأته وهي كبيرة لا تحمل تلاعنا هو لدفع الحد وهي لدرء العذاب ، وأن كانت صغيرة لا تحمل لاعن هو لدفع الحد ولم تلاعن هي لأَنها لو أقرت لم يلزمها شيء{[18]} ، وقال ابن الماجشون لا حد على قاذف من لم يبلغ ، قال اللخمي فعلى هذا لا لعان على زوج الصغيرة التي لا تحمل ، والمستحب من ألفاظ اللعان أَن يمشي مع ترتيب القرآن ولفظه فيقول الزوج أشهد بالله لرأيت هذه المرأة تزني{[19]} وإني في ذلك لمن الصادقين ، ثم يقول في الخامسة لعنة الله علي أن كنت من الكاذبين ، وقال أصبغ لا بد أَن يقول كالمرود في المكحلة ، وقيل لا يلزمه ذلك وكذلك يقول أشهب لا بد أن يقول بالله الذي لا إله إلا هو ، وأَما في لعان نفي الحمل فقيل يقول الرجل ما هذا الولد مني ولزنت ، وقال ابن القاسم في الموازنة ، لا يقول وزنت من حيث يمكن أَن تغضب ، وتقول المرأة أشهد بالله ما زنيت وأنه في ذلك لمن الكاذبين ، ثم تقول غضب الله علي إن كان من الصادقين فإِن منع جهلهما من ترتيب هذه الأَلفاظ وأتيا بما في معناها أجزأ ذلك ، وحكى اللخمي عن محمد بن أَبي صفرة أَنه قال اللعان لا يرفع العصمة لقول عويمر كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها قال : فأحدث طلاقاً ، ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة لا يحتاج معها إلى تفريق حاكم وابن أَبي صفرة هذا ليس بعيد{[20]} يزاحم به الجمهور .
ومذهب الشافعي أن الفرقة حاصلة إثر لعان الزوج وحده ، وقال أبو حنيفة وأصحابه لا تفريق إلا بحكم السلطان بعد لعانهما ، فإن مات أحدهما بعد تمام لعانهما وقبل حكم القاضي ورثه الآخر ، ومذهب المدونة أن اللعان حكم تفريقه حكم الطلاق ويعطى لغير المدخول بها نفس الصداق ، وفي مختصر ابن الجلاب لا شيء لها وهذا على أن تفريق اللعان فسخ ، وقال ابن القصار تفريق اللعان عندنا فسخ وتحريم اللعان أبدي بإجماع فيما أحفظ من مذهب مالك رحمه الله ، ومن فقهاء الكوفة وغيرهم من لا يراه متأبداً ، وإن أكذب نفسه بعد اللعان لم ينتفع بذلك ، وروي عن عبد العزيز بن أَبي سلمة أنه إن أكذب نفسه بعد اللعان كان خاطباً من الخطاب ، وإن تقدمت المرأة في اللعان فقال ابن القاسم لا تعيد ، وقال أشهب تعيد{[21]} .