الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَٱلۡخَٰمِسَةُ أَنَّ لَعۡنَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (7)

قوله : { وَالْخَامِسَةُ } : اتفق السبعةُ على رفع الخامسة الأولى ، واختلفوا في الثانية : فنصبها حفصٌ ، ونَصَبهما معاً الحسنُ والسلمي وطلحة والأعمش . فالرفعُ على الابتداءِ ، وما بعده مِنْ " أنَّ " وما في حَيِّزها الخبرُ . وأمَّا نصبُ الأولى فعلى قراءةِ مَنْ نصبٍ " أربعَ شهادات " يكون النصبُ للعطفِ على المنصوبِ قبلها . وعلى قراءةِ مَنْ رَفَعَ يكونُ النصبُ بفعلٍ مقدرٍ أي : ويَشْهَدُ الخامسةَ . وأمَّا نصبُ الثانيةِ فعطفٌ على ما قبلَها من المنصوبِ وهو " أربع شهادات " . والنصبُ هنا أقوى منه في الأولى لقوةِ النصبِ فيما قبلَها كما تقدَّم تقريرُه : ولذلك لم يُخْتَلَفْ فيه . وأمَّا " أنَّ " وما في حَيِّزها : فعلى قراءةِ الرفعِ تكونُ في محلِّ رفعٍ خبراً للمبتدأ كما تقدَّم ، وعلى قراءةِ النصبِ تكونُ على إسقاطِ الخافضِ ، ويتعلَّقُ الخافضُ بذلك الناصبِ للخامسةِ أي : ويشهد الخامسةَ بأنَّ لعنةَ الله وبأنَّ غضبَ اللهِ . وجَوَّز أبو البقاء أن يكونَ بدلاً من الخامسة .

قوله : { أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ } قرأ العامَّةُ بتشديد " أنَّ " في الموضعين . وقرأ نافعٌ بتخفيفها في الموضعين ، إلاَّ أنه يقرأ " غَضِبَ اللهُ " بجَعْلِ " غَضِبَ " فعلاً ماضياً ، والجلالة فاعلَه . كذا نقل الشيخ عنه التخفيفَ في الأولى أيضاً ، ولم ينقُلْه غيره . فعلى قراءتِه يكون اسمُ " أنْ " ضميرَ الشأنِ في الموضعين ، و " لعنةُ الله " مبتدأ و " عليه " خبرُها . والجملةُ خبرُ " أنْ " . وفي الثانية يكون " غضِبَ الله " جملةً فعليةً في محل خبر " أنْ " أيضاً ، ولكنه يقال : يلزمُكم أحدُ أَمْرَيْن ، وهو إمَّا عَدَمُ الفصلِ بين المخففةِ والفعلِ الواقعِ خبراً ، وإمَّا وقوعُ الطلبِ خبراً في هذا البابِ وهو ممتنعٌ . تقريرُ ذلك : أنَّ خبرَ المخففةِ متى كان فعلاً متصرفاً/ غير مقرونٍ ب " قد " وَجَبَ الفصلُ بينهما . بما تقدَّم في سورة المائدة . فإنْ أُجيب بأنه دعاءٌ اعتُرِض بأنَّ الدعاءَ طلبٌ ، وقد نَصُّوا على أنَّ الجملَ الطلبيةَ لا تقع خبراً ل " إنَّ " . حتى تأوَّلوا قولَه :

3434 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إنَّ الرِّياضةَ لا تُنْصِبْك للشَّيْبِ

وقوله :

إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سَيِّدَهُمْ *** لا تَحْسَبوا ليلَهم عن ليلِكم ناما

على إضمارِ القول . ومثلُه { أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ } [ النمل : 8 ] . وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والسلميُّ وعيسى بتخفيف " أنْ و " غَضَبُ الله " بالرفع على الابتداء ، والجارُّ بعدَه خبرُه . والجملةُ خبرُ " أنْ " .

وقال ابنُ عطية : " وأنْ الخفيفةُ على قراءة الرفعِ في قوله : " أَنْ غَضِبَ " وقد وليها الفعلُ . قال أبو علي : " وأهلُ العربيةِ يَسْتَقْبِحون أَنْ يليَها الفعلُ إلاَّ بأَنْ يُفْصل بينها وبينه بشيء نحو قولِه { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ } [ المزمل : 20 ] { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [ طه : 89 ] فأمَّا قولُه : { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ }

[ النجم : 39 ] فذلك لقلةِ تمكُّنِ " ليس " في الأفعال . وأمَّا قولُه : { أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ } ف " بُوْرِكَ " في معنى الدعاء فلم يَجىءْ دخولُ الفاصلِ لئلا يَفْسُدَ المعنى " . قلت : فظاهرُ هذا أنَّ " غَضِبَ " ليس دعاءً ، بل هو خبرٌ عن " غَضَِبَ الله عليها " والظاهرُ أنه دعاءٌ ، كما أنَّ " بُورك " كذلك . وليس المعنى على الإِخبارِ فيهما فاعتراضُ أبي علي ومتابعةُ أبي محمد له ليسا بمَرْضِيَّيْنِ .