وقوله : { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } أي : مبشرين عباد الله المؤمنين بالخيرات ومنذرين من كفر بالله النقمات والعقوبات . ولهذا قال [ سبحانه وتعالى ]{[10693]} { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ } أي : فمن آمن قلبه بما جاءوا به وأصلح{[10694]} عمله باتباعه إياهم ، { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : بالنسبة إلى ما يستقبلونه { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : بالنسبة إلى ما فاتهم وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدنيا وصنيعها ، الله وليهم فيما خلفوه ، وحافظهم فيما تركوه .
عطف على جملة { انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدفون } [ الأنعام : 46 ] . والمناسبة أنّ صدوفهم وإعراضهم كانوا يتعلّلون له بأنَّهم يَرُومون آيات على وفق مقترحهم وأنَّهم لا يقنعون بآيات الوحدانية ، ألا ترى إلى قولهم : { لن نؤمن لك حتّى تفجِّر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] إلى آخر ما حكي عنهم في تلك الآية ، فأنبأهم الله بأنّ إرسال الرسل للتبليغ والتبشير والنذارة لا للتّلهّي بهم باقتراح الآيات .
وعُبِّر ب { نُرسل } دون { أرسلنا } للدلالة على تجدّد الإرسال مقارناً لهذين الحالين ، أي ما أرسلنا وما نرسل ، فقوله : { مُبشّرين ومنذرين } حالان مقدّرتان باعتبار المستقبل ومحقّقتان باعتبار الماضي .
والاستثناء من أحوال محذوفة ، أي ما أرسلناهم إلاّ في حالة كونهم مبشّرين ومنذرين .
والقصرُ إضافي للردّ على من زعموا أنّه إنْ لم يأتهم بآية كما اقترحوا فليس برسول من عند الله ، فهو قصر قلب ، أي لم نرسل الرسول للإعجاب بإظهار خوارق العادات . وكنّى بالتبشير والإنذار عن التبليغ لأنّ التبليغ يستلزم الأمرين وهما الترغيب والترهيب ، فحصل بهذه الكناية إيجاز إذ استغنى بذكر اللازم عن الجمع بينه وبين الملزوم .
والفاء في قوله : { فمن آمن } للتفريع ، أي فمن آمن من المرسل إليهم فلا خوف الخ . و { مَنْ } الأظهر أنَّها موصولة كما يرجّحه عطف { والذين كذّبوا } عليه . ويجوز أن تكون شرطية لا سيما وهي في معنى التفصيل لقوله : { مبشِّرين ومنذرين } . فإن كانت شرطية فاقتران { فلا خوف } بالفاء بيِّن ، وإن جعلت موصولة فالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط ، والاستعمالات متقاربان .
ومعنى { أصْلح } فَعَلَ الصلاح ، وهو الطاعة لله فيما أمر ونهى ، لأنّ الله ما أراد بشرعه إلاّ إصلاح الناس كما حكَى عن شعيب { إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت } [ هود : 88 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما نرسل المرسلين إلا مبشرين} بالجنة، {ومنذرين} من النار، {فمن آمن}: فمن صدق، {وأصلح} العمل، {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما نرسل رسلنا إلاّ ببشارة أهل الطاعة لنا بالجنة والفوز المبين يوم القيامة، جزاء منا لهم على طاعتنا، وبإنذار من عصانا وخالف أمرنا، عقوبتنا إياه على معصيتنا يوم القيامة، جزاء منا على معصيتنا، لنعذر إليه، فيهلك إن هلك عن بينة. "فَمَنْ آمَنَ وأصْلَحَ": فمن صدّق من أرسلنا إليه من رسلنا إنذارهم إياه، وقبل منهم ما جاءوه به من عند الله وعمل صالحا في الدنيا، "فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ "عند قدومهم على ربهم من عقابه وعذابه الذي أعدّه الله لأعدائه وأهل معاصيه: "وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" عند ذلك على ما خلفوا وراءهم في الدنيا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وفيه أن الرسل ليس إليهم الأمر والنهي إنما إليهم إبلاغ الأمر والنهي.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
بين الله تعالى في هاتين الآيتين أنه لا يبعث الرسل أربابا يقدرون على كل شيء يسألون عنه من الآيات أو يخترعونه، بل أنما يرسلهم لما في ذلك من المصلحة لهم ومنبهين على ما في عقولهم من توحيد الله وعدله وحكمته، مبشرين بثواب الله لمن آمن به وعرفه، ومخوفين لمن أنكره وجحده، ثم أخبر أن المرسل إليهم مختارون غير مجبرين ولا مضطرين، ودل على أنه غير محدث لشيء من أفعالهم فيهم، وأن الأفعال لهم، هم يكتسبونها بما خلق الله فيهم من القدرة، وأنه قد هداهم، وبين لهم وبشرهم وأنذرهم، فمن آمن أثابه، ومن عصاه عاقبه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يعني ليس أمرنا لهم إلا بالتزام ما فيه نجاتهم، ثم بجميل الوعد لهم، ومفارقة ما فيه هلاكهم، ثم بأليم العقوبة في الآجل ما يحل من خلافهم.
فَمَنْ آمن وصدَّق أنجزنا له الوعد، ومَنْ كفر وجحد عارضنا عليه الأمر، وأدخلنا عليه الضُّر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
إنما نرسل الأنبياء المخصوصين بالرسالة ليبشروا بإنعامنا ورحمتنا لمن آمن، وينذروا بعذابنا وعقابنا من كذب وكفر، ولسنا نرسلهم ليقترح عليهم الآيات ويتابعوا شذوذ كل متعسف متعمق، ثم وعد من سلك طريق البشارة فآمن وأصلح في امتثال الطاعات.
ثم ذكر هذه الآية والمقصود منها أن الأنبياء والرسل بعثوا مبشرين ومنذرين، ولا قدرة لهم على إظهار الآيات وإنزال المعجزات، بل ذاك مفوض إلى مشيئة الله تعالى وكلمته وحكمته فقال: {وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين} مبشرين بالثواب على الطاعات، ومنذرين بالعقاب على المعاصي، فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو عمل القلب والإصلاح الذي هو عمل الجسد {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
يذكر تعالى، زبدة ما أرسل به المرسلين؛ أنه البشارة والنذارة، وذلك مستلزم لبيان المبشر والمبشر به، والأعمال التي إذا عملها العبد، حصلت له البشارة. والمنذر والمنذر به، والأعمال التي من عملها، حقت عليه النذارة. ولكن الناس انقسموا -بحسب إجابتهم لدعوتهم وعدمها -إلى قسمين: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} أي: آمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، وأصلح إيمانه وأعماله ونيته {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيما يستقبل {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما مضى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
..تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض. وبيان محكم عن الرسول ووظيفته وحدود عمله في هذا الدين.. تصور يفرد الله سبحانه بالألوهية وخصائصها؛ ويرد إلى مشيئة الله وقدره الأمر كله، ويجعل للإنسان -من خلال ذلك- حرية اتجاهه وتبعة هذا الاتجاه، ويبين مصائر الطائعين لله والعصاة بيانا حاسما؛ وينفي كل الأساطير والتصورات الغامضة عن طبيعة الرسول وعمله، مما كان سائدا في الجاهليات.. وبذلك ينقل البشرية إلى عهد الرشد العقلي؛ دون أن يضرب بها في تيه الفلسفات الذهنية، والجدل اللاهوتي، الذي استنفذ طاقة الإدراك البشري أجيالا بعد أجيال!!!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {انظر كيف نصرّف الآيات ثم هم يصدفون} [الأنعام: 46]. والمناسبة أنّ صدوفهم وإعراضهم كانوا يتعلّلون له بأنَّهم يَرُومون آيات على وفق مقترحهم وأنَّهم لا يقنعون بآيات الوحدانية، ألا ترى إلى قولهم: {لن نؤمن لك حتّى تفجِّر لنا من الأرض ينبوعاً} [الإسراء: 90] إلى آخر ما حكي عنهم في تلك الآية، فأنبأهم الله بأنّ إرسال الرسل للتبليغ والتبشير والنذارة لا للتّلهّي بهم باقتراح الآيات.
وعُبِّر ب {نُرسل} دون {أرسلنا} للدلالة على تجدّد الإرسال مقارناً لهذين الحالين، أي ما أرسلنا وما نرسل، فقوله: {مُبشّرين ومنذرين} حالان مقدّرتان باعتبار المستقبل ومحقّقتان باعتبار الماضي.
والاستثناء من أحوال محذوفة، أي ما أرسلناهم إلاّ في حالة كونهم مبشّرين ومنذرين.
والقصرُ إضافي للردّ على من زعموا أنّه إنْ لم يأتهم بآية كما اقترحوا فليس برسول من عند الله، فهو قصر قلب، أي لم نرسل الرسول للإعجاب بإظهار خوارق العادات. وكنّى بالتبشير والإنذار عن التبليغ لأنّ التبليغ يستلزم الأمرين وهما الترغيب والترهيب، فحصل بهذه الكناية إيجاز إذ استغنى بذكر اللازم عن الجمع بينه وبين الملزوم.
والفاء في قوله: {فمن آمن} للتفريع، أي فمن آمن من المرسل إليهم فلا خوف الخ. و {مَنْ} الأظهر أنَّها موصولة كما يرجّحه عطف {والذين كذّبوا} عليه. ويجوز أن تكون شرطية لا سيما وهي في معنى التفصيل لقوله: {مبشِّرين ومنذرين}. فإن كانت شرطية فاقتران {فلا خوف} بالفاء بيِّن، وإن جعلت موصولة فالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط، والاستعمالات متقاربان.
ومعنى {أصْلح} فَعَلَ الصلاح، وهو الطاعة لله فيما أمر ونهى، لأنّ الله ما أراد بشرعه إلاّ إصلاح الناس كما حكَى عن شعيب {إن أريد إلاّ الإصلاح ما استطعت} [هود: 88].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
التبشير هو: الإخبار بالبشرى وهو الخبر السار، والإنذار هو الإخبار بالسوء في المستقبل تحذيرا وإعذارا. فالتبشير وعد بما يلقى في النفس السرور والاطمئنان، والإنذار وعيد بالعذاب والجزاء المماثل للإثم. وقصر الله تعالى المرسلين على الإنذار والتبشير لأنه ليس عليهم أن يحملوا الناس على الهداية إن لم يهتدوا، ولا يتحملوا وزر العصاة إن عصوا أمر ربهم،إنما الثواب لمن أطاع،والعذاب لمن عصاه.وذكر سبحانه وتعالى ذلك بالنص لأن النبي صلى الله عليه وسلم كادت نفسه تذهب عليهم حسرات حتى يؤمنوا وقال تعالى له: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين 3) (الشعراء).فالله سبحانه وتعالى بين له أنه لا يهدي من أحب، وأنه ليس عليه هدايتهم، وأن رسالته غايتها الإنذار والتبشير كسائر المرسلين، وأنه بعد تبليغ الرسالة يكون الخيار لهم والتبعة عليهم.
..والإيمان هو اطمئنان القلب إلى قضية عقدية لا تطفو إلى الذهن لتناقش من جديد. ولذلك نسمي الإيمان عقيدة، أي شيئا انعقد عقدا لا ينحل أبدا. إن على المؤمن بربه أن يستحضر الأدلة والآيات التي تجعل إيمانه بربه إيمانا قويا معقودا؛ وهذا من عمل القلب. ويعرف المؤمن أن عمل القلب لا يكفي كتعبير عن الإيمان؛ لأن الكائن الحي ليس قلبا فقط، ولكنه قلب وجوارح وأجهزة متعددة، وكل ما في الكائن الحي المؤمن يجب أن ينقاد إلى منهج ربه، فلا بد من التعبير عن الإيمان بأن يصلح الإنسان كل عمل فيؤديه بجوارحه أداء صحيحا سليما.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية الثالثة تشير إِلى مركز الأنبياء، فتقول: ليست الأصنام العديمة الروح هي وحدها العاجزة عن القيام بأي أمر، فإِن الأنبياء العظام والقادة الإِلهيين أيضاً لا عمل لهم سوى إِبلاغ الرسالة والإِنذار والتبشير، فكل ما هنالك من نعم إِنّما هي من الله وبأمره، وأنّهم إِن أرادوا شيئاً طلبوه من الله: (وما نرسل المرسلين إِلاّ مبشرين ومنذرين).
والاحتمال الآخر في ربط هذه الآية بالآيات السابقة هو أنّ تلك الآيات كانت تتكلم عن البشارة والإِنذار، وهنا يدور القول على أنّ هذا هو هدف بعثة الأنبياء، فهم مبشرون ومنذرون.
ثمّ تقول: إِنّ طريق النجاة ينحصر في أمرين، فالذين يؤمنون ويصلحون أنفسهم (ويعملون الصالحات) فلا خوف عليهم من العقاب الإِلهي، ولا حزن على أعمالهم السابقة. (فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون).