قوله تعالى : { فأنجيناه وأصحاب السفينة } يعني من الغرق ، { وجعلناها } يعني السفينة { آية }أي : عبرة ، { للعالمين } فإنها كانت باقية على الجودي مدة مديدة . وقيل : جعلنا عقوبتهم للغرق عبرة . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بعث نوح لأربعين سنة ، وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا ، وكان عمره ألفاً وخمسين سنة .
وقوله : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } أي : الذين آمنوا بنوح عليه السلام . وقد تقدَّم ذكر ذلك مفصلا في سورة " هود " ، وتقدَّم تفسيره بما أغنى عن إعادته .
وقوله : { وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } أي : وجعلنا تلك السفينة باقية ، إما عينها كما قال قتادة : إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي ، أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق ، كيف نجاهم من الطوفان ، كما قال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ . وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ . وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ . إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } [ يس : 41 - 44 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ . لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11 ، 12 ] ، وقال هاهنا : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } ، وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس ، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ]
أي : وجعلنا نوعها ، فإن التي يرمى{[22515]} بها ليست هي التي زينة للسماء{[22516]} . وقال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } [ المؤمنون : 12 ، 13 ] ، ولهذا نظائر كثيرة .
وقال ابن جرير : لو قيل : إنّ الضمير في قوله : { وَجَعَلْنَاهَا } {[22517]} ، عائد إلى العقوبة ، لكان وجهًا ، والله أعلم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فأنجيناه}، يعني: نوحا، عليه السلام، {وأصحاب السفينة} من الغرق، {وجعلناها}، يعني: السفينة، {آية للعالمين} يعني: لمن بعدهم من الناس.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فأنجينا نوحا وأصحاب سفينته، وهم الذين حملهم في سفينته من ولده وأزواجهم...
"وَجَعَلْناها آيَةً للْعالَمِينَ" يقول: وجعلنا السفينة التي أنجيناه وأصحابه فيها عبرة وعظة للعالمين، وحجة عليهم... ولو قيل: معنى: "وَجَعَلْناها آيَةً للعالَمِينَ": وجعلنا عقوبتنا إياهم آية للعالمين، وجعل الهاء والألف في قوله "وَجَعَلْناها" كناية عن العقوبة أو السخط، ونحو ذلك، إذ كان قد تقدم ذلك في قوله "فأخَذَهُمُ الطّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ" كان وجها من التأويل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{وجعلناها}... يحتمل أن يعود على النجاة، والآية هنا العبرة على قدرة الله تعالى في شدة بطشه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ودل عليهم مسبباً عن ذلك بقوله: {فأنجيناه} أي نوحاً عليه السلام بما لنا من العظمة التي لا يغلبها شيء {وأصحاب السفينة} من أولاده وأتباعه، من الغرق، وماذا يبلغ مقدار أهل سفينة واحدة في العدة والكثرة {وجعلناها} أي الفعلة أو السفينة أي نفسها وجنسها، بتلك العظمة {آية} أي علامة على قدرة الله وعلمه وإنجائه للطائع وإهلاكه للعاصي {للعالمين} فإن لم يقع في الدهر حادثة أعظم منها ولا أغرب ولا أشهر... وكونها آية أما للآدميين الذين كانوا في ذلك الزمان فالأمر فيهم واضح، وأما غيرهم من الحيوان فقد عرفوا لمعرفتهم بالجزئيات المشاهدة أن ذلك الماء لا ينجى منه في دار الأسباب إلا هذه السفينة، فالهداية إلى فعلها للنجاة قبل وقوع سبب الهلاك دالة على تمام العلم وشمول القدرة، وأن من اهتدى إليه دون أهل ذلك العصر كلهم إنما اهتدى بإعلام الله دون غيره، ونصف الآية الأولى الأول من هذه القصة تسلية وتعزية دليلاً على آيتي الفتنة أول السورة، ونصفها الثاني تحذير وتوقية، وفيه دليل على الآية الثالثة، والآية الثالثة، والآية الأخرى تبشير وترجية، وفيه دليل على ما بعد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معنى كونها آية أنها دليل على وقوع الطوفان عذاباً من الله للمكذبين الرسل... وقد أبقى الله بقية السفينة إلى صدر الأمة الإسلامية ففي « صحيح البخاري»: « قال قتادة: بقيت بقايا السفينة على الجودي حتى نظرتها أوائل هذه الأمة»... وإنما قال {للعالمين} الشامل لجميع سكان الأرض لأن من لم يشاهد بقايا سفينة نوح يشاهد السفن فيتذكر سفينة نوح وكيف كان صنعها بوحي من الله لإنجاء نوح ومن شاء الله نجاته، ولأن الذين من أهل قريتها يُخبرون عنها وتنقل أخبارهم فتصير متواترة.
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.