قوله عز وجل :{ فمال الذين كفروا } أي : فما بال الذين كفروا ، كقوله : { فما لهم عن التذكرة معرضين }( المدثر - 49 ) ، { قبلك مهطعين } مسرعين مقبلين إليك مادي أعناقهم ومديمي النظر إليك متطلعين نحوك . نزلت في جماعة من الكفار ، كانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون كلامه ويستهزئون به ويكذبونه ، فقال الله تعالى : ما لهم ينظرون إليك ويجلسون عندك وهم لا ينتفعون بما يستمعون .
ثم يعرض السياق مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة ، والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون فيه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يتلو القرآن . ثم يتفرقون حواليه جماعات . ويستنكر إسراعهم هذا وتجمعهم في غير ما رغبة في الاهتداء بما يسمعون :
فما للذين كفروا قبلك مهطعين ? عن اليمين وعن الشمال عزين ? . .
المهطع هو الذي يسرع الخطى مادا عنقه كالمقود . وعزين جمع عزة كفئة وزنا ومعنى . . وفي التعبير تهكم خفي بحركتهم المريبة . وتصوير لهذه الحركة وللهيئة التي تتم بها . وتعجب منهم . وتساؤل عن هذا الحال منهم ! وهم لا يسرعون الخطى تجاه الرسول ليسمعوا ويهتدوا ، ولكن فقط ليستطلعوا في دهشة ثم يتفرقوا كي يتحلقوا حلقات يتناجون في الكيد والرد على ما يسمعون !
تفهام إنكاري وتعجيبي من تجمع المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستهزئين بما يسمعون من وعد المؤمنين بالجنة ووعيد المشركين بعذاب جهنم .
فرع ذلك على ما أفاده في قوله : { أولئك جنات مكرمون } [ المعارج : 35 ] .
والمعنى : أن الذين كفروا لا مطمع لهم في دخول الجنة فماذا يحاولون بتجمعهم حولك بملامح استهزائهم .
وهذا وإن كان خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم فالمقصود به إبلاغه إليهم فيما يتلو عليهم من القرآن فهو موجه إليهم في المعنى كما يدل عليه تنهيته بحرف الردع فهو لا يناسب أن يكون إعلاماً للنبيء صلى الله عليه وسلم لذلك لأنه شيء مقرر في علمه .
ومعنى { فما للذين كفروا } : أيُّ شيء ثبت للذين كفروا في حال كونهم عندك ، أو في حال إهطاعهم إليك .
وقد تقدم عند قوله تعالى : { قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا } في سورة البقرة ( 246 ) . وتركيب ما لَه لا يخلو من حال مفردة ، أو جملة بعد الاستفهام تكون هي مصبَّ الاستفهام . فيجوز أن تكون الحال المتوجه إليها الاستفهام هنا الظرف ، أي { قِبَلَك } فيكون ظرفاً مستقراً وصاحب الحال هو { للذين كفروا } . ويجوز أن تكون { مهطعين ، } فيكون { قِبَلَك } ظرفاً لغْواً متعلقاً ب { مهطعين . } وعلى كلا الوجهين هما مثار التعجيب من حالهم فأيهما جعل محل التعجيب أجري الآخَر المُجرى اللائق به في التركيب . وكتب في المصحف اللام الداخلة على { الذين } مفصولة عن مدخولها وهو رسم نادر .
والإِهطاع : مد العنق عند السير كما تقدم في قوله تعالى : { مهطعين إلى الداع } في سورة القمر ( 8 ) .
قال الواحدي والبغوي وابن عطية وصاحب « الكشاف » : كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ويكذبونه ويستهزئون بالمؤمنين ، ويقولون : لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم . فأنزل الله هذه الآية .
وتقديم الظرف على { مهطعين } للاهتمام به لأن التعجيب من حالهم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أقوى لما فيهم من الوقاحة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يعني مقبلين، نزلت هذه الآية في المستهزئين من قريش.
مقبلين، ينظرون عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
عن قتادة،" قوله فَمَا لِلّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ "يقول: عامدين.
وقال ابن زيد:.. المهطع: الذي لا يطرف.
وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: معناه: مسرعين.
عن الحسن، في قوله: "فمَا لِلّذِين كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِين" قال: منطلقين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فمنهم من يقول: هو الإسراع في المشي،
ومنهم من يقول: هو إدامة النظر.
فمن حمله على الإسراع، فمعناه أن أئمة الكفر كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستمعون القرآن منه، ثم يسرعون إلى أتباعهم، ويجلسون حلقا حلقا، ويحرفون ما يستمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان الأمر على هذا فتأويله: ما لهم يسرعون إليك ليسمعوا كلامك، ثم يتفرقون عن اليمين وعن الشمال، ويكذبونك نحو أن يقول بعضهم: {إن هذا إلا سحر مبين} [المائدة 110 و..] [ويقولوا] {إن هذا إلا أساطير الأولين} [الأنعام: 25و..] ويقولوا: {إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا} [المؤمنون: 38] ونحو ذلك...
ومن حمله على النظر فمعناه أنهم كانوا يجلسون من بعيد، فينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ويطعنون عليه بالسحر والافتراء وأنه من أساطير الأولين، ويمكرون بمن يقتدي برسول الله وبمن لا يعاديه من الكفرة. فإن كان على هذا فتأويله كأنه يقول لهم: مالهم يجلسون من البعد ناظرين إليك، ولا يدنون منك ليسمعوا ما أنزل إليك، فينتفعوا به؟ وإنهم متفرقون عن اليمين وعن الشمال، يصدون الناس عن مجلسك، وقد علموا أن لهم إلى من يعلمهم الكتاب والحكمة حاجة، إذ ليس عندهم كتاب ولا علم بالأنباء المتقدمة ليعلموا أنك جئت بالعلم والحكمة دون السحر والكهانة. فإن كان هذا الوجه فالعتاب لمكان التحريف والتبديل، والله اعلم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وفي التفسير: أنهم كانوا [الكفار] يأتون ويجلسون حول النبي صلى الله عليه و سلم وينظرون إليه نظر البغضاء والعداوة، ويستمعون القرآن استماع الاستهزاء والتكذيب.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
نزلت بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند الكعبة أحياناً ويقرأ القرآن، فكان كثير من الكفار يقومون من مجالسهم مسرعين إليه يتسمعون قراءته ويقول بعضهم لبعض: شاعر وكاهن ومفتر وغير ذلك. و {قبلك} معناه فيما يليك، و: «المهطع» الذي يمشي مسرعاً إلى شيء قد أقبل عليه ببصره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
كان الكفار يأتون النبي صلى الله عليه وسلم ويجلسون حوله بالقرب منه ليسمعوا كلامه ويكذبوه ويهزؤوا به، وكان العاقل لا ينبغي له أن يأتي شيئاً لا سيما إن كان إتيانه إليه على هيئة الإسراع إلا لتحصيل السعادة، سبب عن ذلك قوله معبراً عن عظمة القرآن بما حاصله أنهم حين يسمعونه يصيرون لشدة ما يفزعهم أمره لا يتمالكون فيفعلون أفعال من لا وعي له: {فمال الذين كفروا} أي أي شيء من السعادة للذين ستروا مرائي عقولهم عن الإقرار بمضمون هذا الكلام الذي هو أوضح من الشمس، حال كونهم {قبلك} أي نحوك أيها الرسول الكريم وفيما أقبل عليك {مهطعين} أي مسرعين مع مد الأعناق وإدامة النظر إليك في غاية العجب من مقالك هيبة من يسعى إلى أمر لا حياة له بدونه.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يعرض السياق مشهدا من مشاهد الدعوة في مكة، والمشركون يسرعون الخطى إلى المكان الذي يكون فيه الرسول [صلى الله عليه وسلم] يتلو القرآن. ثم يتفرقون حواليه جماعات. ويستنكر إسراعهم هذا وتجمعهم في غير ما رغبة في الاهتداء بما يسمعون: فما للذين كفروا قبلك مهطعين؟ عن اليمين وعن الشمال عزين؟.. المهطع هو الذي يسرع الخطى مادا عنقه كالمقود. وعزين جمع عزة كفئة وزنا ومعنى.. وفي التعبير تهكم خفي بحركتهم المريبة. وتصوير لهذه الحركة وللهيئة التي تتم بها. وتعجب منهم. وتساؤل عن هذا الحال منهم! وهم لا يسرعون الخطى تجاه الرسول ليسمعوا ويهتدوا، ولكن فقط ليستطلعوا في دهشة ثم يتفرقوا كي يتحلقوا حلقات يتناجون في الكيد والرد على ما يسمعون!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استفهام إنكاري وتعجيبي من تجمع المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستهزئين بما يسمعون من وعد المؤمنين بالجنة ووعيد المشركين بعذاب جهنم.
فرع ذلك على ما أفاده في قوله: {أولئك جنات مكرمون} [المعارج: 35].
والمعنى: أن الذين كفروا لا مطمع لهم في دخول الجنة، فماذا يحاولون بتجمعهم حولك بملامح استهزائهم.
وهذا وإن كان خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم فالمقصود به إبلاغه إليهم فيما يتلو عليهم من القرآن فهو موجه إليهم في المعنى كما يدل عليه تنهيته بحرف الردع فهو لا يناسب أن يكون إعلاماً للنبي صلى الله عليه وسلم لذلك لأنه شيء مقرر في علمه.