المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ} (226)

226- وأنهم يقولون بألسنتهم ما لا يلتزمونه في عملهم .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ} (226)

قوله تعالى : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } أي يكذبون في شعرهم ، يقولون : فعلنا وفعلنا ، وهم كذبة .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم البغوي ، حدثنا علي بن المجعد ، أنبأنا شعبة عن الأعمش ، عن ذكوان ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً " . ثم استثنى شعراء المسلمين الذين كانوا يجيبون شعراء الجاهلية ، ويهجون الكفار ، وينافحون عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه منهم : حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعب بن مالك ، فقال :

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ} (226)

192

وهم يقولون ما لا يفعلون . لأنهم يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم ، يؤثرونها على واقع الحياة الذي لا يعجبهم ! ومن ثم يقولون أشياء كثيرة ولا يفعلونها ، لأنهم عاشوها في تلك العوالم الموهومة ، وليس لها واقع ولا حقيقة في دنيا الناس المنظورة !

إن طبيعة الإسلام - وهو منهج حياة كامل معد للتنفيذ في واقع الحياة ، وهو حركة ضخمة في الضمائر المكنونة وفي أوضاع الحياة الظاهرة - إن طبيعة الإسلام هذه لا تلائمها طبيعة الشعراء كما عرفتهم البشرية - في الغالب - لأن الشاعر يخلق حلما في حسه ويقنع به . فأما الإسلام فيريد تحقيق الحلم ويعمل على تحقيقه ، ويحول المشاعر كلها لتحقق في عالم الواقع ذلك النموذج الرفيع .

والإسلام يحب للناس أن يواجهوا حقائق الواقع ولا يهربوا منها إلى الخيال المهوم . فإذا كانت هذه الحقائق لا تعجبهم ، ولا تتفق مع منهجه الذي يأخذهم به ، دفعهم إلى تغييرها ، وتحقيق المنهج الذي يريد .

ومن ثم لا تبقى في الطاقة البشرية بقية للأحلام المهومة الطائرة . فالإسلام يستغرق هذه الطاقة في تحقيق الأحلام الرفيعة ، وفق منهجه الضخم العظيم .

ومع هذا فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته - كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ . إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن . منهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها ؛ ومنهج الأحلام المهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها . فأما حين تستقر الروح على منهج الإسلام ، وتنضح بتأثراتها الإسلامية شعرا وفنا ؛ وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع ؛ ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية تعيش فيها ، وتدع واقع الحياة كما هو مشوها متخلفا قبيحا !

وأما حين يكون للروح منهج ثابت يهدف إلى غاية إسلامية ، وحين تنظر إلى الدنيا فتراها من زاوية الإسلام ، في ضوء الإسلام ، ثم تعبر عن هذا كله شعرا وفنا .

فأما عند ذلك فالإسلام لا يكره الشعر ولا يحارب الفن ، كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ .

ولقد وجه القرآن القلوب والعقول إلى بدائع هذا الكون ، وإلى خفايا النفس البشرية . وهذه وتلك هي مادة الشعر والفن . وفي القرآن وقفات أمام بدائع الخلق والنفس لم يبلغ إليها شعر قط في الشفافية والنفاذ والاحتفال بتلك البدائع وذلك الجمال .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ} (226)

وقوله : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } قال العوفي ، عن ابن عباس : كان رجلان على عهد رسول الله ، أحدهما من الأنصار ، والآخر من قوم آخرين ، وإنهما تهاجيا ، فكان{[21930]} مع كل واحد منهما غواة من قومه - وهم{[21931]} السفهاء - فقال الله تعالى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أكثر قولهم يكذبون فيه .

وهذا الذي قاله ابن عباس ، رضي الله عنه ، هو الواقع في نفس الأمر ؛ فإن الشعراء يتَبجَّحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم ، فيتكثرون بما ليس لهم ؛ ولهذا اختلف العلماء ، رحمهم الله ، فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حَدًّا : هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا لأنهم يقولون ما لا يفعلون ؟ على قولين . وقد ذكر محمد بن إسحاق ، ومحمد بن سعد في الطبقات ، والزبير بن بَكَّار في كتاب الفكاهة : أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، استعمل النعمان بن عدي بن نَضْلَة على " ميسان " - من أرض البصرة - وكان يقول الشعر ، فقال :

ألا هَل أتَى الحَسْنَاءَ أنّ حَليِلَها *** بِمَيْسَانَ ، يُسقَى في زُجاج وَحَنْتَم

إذَا شئْتُ غَنَّتْني دَهاقينُ قَرْيَة *** وَرَقَّاصَةٌ تَجذُو على كل مَنْسم{[21932]}

فإنْ كُنتَ نَدْمانِي فَبالأكْبر اسْقني *** وَلا تَسْقني بالأصْغَر المُتَثَلم{[21933]}

لَعَل أميرَ المؤمنينَ يَسُوءه *** تَنادُمُنا بالجَوْسَق المُتَهَدَم

فلما بلغ [ ذلك ]{[21934]} أمير المؤمنين قال : أي والله ، إنه ليسوءني ذلك ، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته . وكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم { حم . تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ غافر : 1 - 3 ] أما بعد فقد بلغني قولك :

لَعَلَّ أمير المُؤمنينَ يَسُوُءه *** تَنَادُمُنَا بالجَوْسق{[21935]} المُتَهَدّم

وايم الله ، إنه ليسوءني وقد عزلتك . فلما قدم على عمر بَكَّتَه بهذا الشعر ، فقال : والله - يا أمير المؤمنين - ما شربتها قَطّ ، وما ذاك الشعر إلا شيء طَفح على لساني . فقال عمر : أظن ذلك ، ولكن والله لا تعمل لي على عمل أبدًا ، وقد قُلتَ ما قلتَ{[21936]} .

فلم يُذكر أنه حَدّه على الشراب ، وقد ضمنه شعره ؛ لأنهم يقولون ما لا يفعلون ، ولكنه{[21937]} ذمَّه عمر ، رضي الله عنه ، ولامه على ذلك وعزله به . ولهذا جاء في الحديث : " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا ، يَرِيه خير له من أن يمتلئ شعرًا " {[21938]} .

والمراد من هذا : أن{[21939]} الرسول صلى الله عليه وسلم{[21940]} الذي أنزل عليه{[21941]} القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر ؛

لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة ، كما قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } [ يس : 69 ] وقال تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ . وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ . تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الحاقة : 40 - 43 ] ، وهكذا قال هاهنا : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } إلى أن قال : { وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ . إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } إلى أن قال : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ . تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ . يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ . وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } .


[21930]:- في ف : "وكان".
[21931]:- في ف : "فهم".
[21932]:- في ف ، أ : "مبسم".
[21933]:- في ف : "المتلثم".
[21934]:- زيادة من ف ، أ.
[21935]:- في ف ، أ : "في الجوسق".
[21936]:- الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (2/266) والطبقات الكبرى لابن سعد (4/140).
[21937]:- في ف : "ولكن".
[21938]:- رواه مسلم في صحيحه برقم (2257) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[21939]:- في ف ، أ : "أن هذا الرسول".
[21940]:- في ف ، أ : "صلوات الله وسلامه عليه".
[21941]:- في ف ، أ : "عليه هذا القرآن".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ} (226)

وأغلب كلماتهم في النسيب بالحرم والغزل والابتهار وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب والوعد الكاذب والافتخار الباطل ومدح من لا يستحقه والإطراء فيه ، وإليه أشار بقوله : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } وكأنه لما كان إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى ، وقد قدحوا في المعنى بأنه مما تنزلت به الشياطين ، وفي اللفظ بأنه من جنس كلام الشعراء تكلم في القسمين وبين منافاة القرآن لهما ومضادة حال الرسول صلى الله عليه وسلم لحال أربابهما . وقرأ نافع " يتبعهم " على التخفيف ، و قرىء بالتشديد وتسكين العين تشبيها لبعضه بعضا .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ} (226)

وشفَّع مذمتهم هذه بمذمة الكذب فقال : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } ، والعرب يتمادحون بالصدق ويعيرون بالكذب ، والشاعر يقول ما لا يعتقد وما يخالف الواقع حتى قيل : أحسن الشعر أكذبه ، والكذب مذموم في الدين الإسلامي فإن كان الشعر كذباً لا قرينة على مراد صاحبه فهو قبيح ، وإن كان عليه قرينة كان كذباً معتذَراً عنه فكان غير محمود .

وفي هذا إبداء للبَون الشاسع بين حال الشعراء وحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان لا يقول إلا حقاً ولا يصانع ولا يأتي بما يضلّل الأفهام .

ومن اللطائف أن الفرزدق أنشد عند سليمان بن عبد الملك قوله :

فبِتْن بجانبيَّ مصرَّعاتٍ *** وبتُّ أفضّ أغلاق الختام

فقال سليمان : قد وجب عليك الحد . فقال : يا أمير المؤمنين قد دَرَأ الله عَني الحد بقوله : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } . وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملاً لعمر بن الخطاب فقال شعراً :

مَن مُبلِغُ الحسناءِ أن حليلها *** بميسان يُسقى في زُجاج وحنتم

إلى أن قال :

لعل أميرَ المؤمنين يسوءه *** تنادُمُنا بالجَوْسَقِ المتهدم{[302]}

فبلغ ذلك عمرَ فأرسل إليه بالقُدوم عليه وقال له : أي والله إني ليسوءني ذلك وقد وجب عليك الحدّ ، فقال : يا أمير المؤمنين ما فعلتُ شيئاً مما قلتُ وإنما كان فضلةً من القول ، وقد قال الله تعالى : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } فقال له عمر : أمّا عذرك فقد درأ عنك الحد ولكن لا تعمل لي عملاً أبداً وقد قلتَ ما قلت .


[302]:- الجوسق: القصر، كان أهل البطالة والخلاعة يأوون إلى القصور المتروكة.