( فعصوا رسول ربهم ) . . وهم عصوا رسلا متعددين ؛ ولكن حقيقتهم واحدة ، ورسالتهم في صميمها واحدة . فهم إذن رسول واحد ، يمثل حقيقة واحدة - وذلك من بدائع الإشارات القرآنية الموحية - وفي إجمال يذكر مصيرهم في تعبير يلقي الهول والحسم حسب جو السورة : ( فأخذهم أخذة رابية ) . . والرابية العالية الغامرة الطامرة . لتناسب( الطاغية )التي أخذت ثمود( والعاتية )التي أخذت عادا ، وتناسب جو الهول والرعب في السياق بدون تفصيل ولا تطويل !
وهذا جنس ، أي : كُلّ كذّبَ رسول الله إليهم . كما قال : { كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ } [ ق : 14 ] . {[29267]} ومن كذب رسول الله فقد كذب بالجميع ، كما قال : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ } [ الشعراء : 105 ] ، { كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ } [ الشعراء : 123 ] . { كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ } [ الشعراء : 141 ] وإنما جاء إلى كل أمة رسول واحد ؛ ولهذا قال هاهنا : { فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً } أي : عظيمة شديدة أليمة .
وقوله تعالى : { فعصوا رسول ربهم } يحتمل أن يكون الرسول : اسم جنس كأنه قال : فعصا هؤلاء الأقوام والفرق أنبياء الله الذين أرسلهم إليهم ، ويحتمل أن يكون الرسول بمعنى : الرسالة ، وقال الكلبي : يعني موسى ، وقال غيره في كتاب الثعلبي : يعني لوطاً والرابية : النامية التي قد عظمت جداً ، ومنه ربا المال ، ومنه الربا ، ومنه اهتزت وربت{[11280]} .
وضمير ( عصوا ) يجوز أن يرجع إلى { فرعون } باعتباره رأس قومه ، فالضمير عائد إليه وإلى قومه ، والقرينة ظاهرة على قراءة الجمهور ، وإما على قراءة أبي عمرو والكسائي فالأمر أظهر وعلى هذا الاعتبار في محل ضمير ( عصوا ) يكون المراد ب { رسول ربّهم } موسى عليه السلام . وتعريفه بالإِضافة لما في لفظ المضاف إليه من الإِشارة إلى تخطئتهم في عبادة فرعون وجعلهم إياه إلها لهم .
ويجُوز أن يرجع ضمير ( عصوا ) إلى { فرعون ومَن قبله والمؤتفكات .
و{ رسول ربّهم } هو الرسول المرسل إلى كل قوم من هؤلاء .
فإفراد { رسول } مراد به التوزيع على الجماعات ، أي رسول الله لكل جماعة منهم ، والقرينة ظاهرة ، وهو أجمل نظماً من أن يقال : فعصوا رسُل ربّهم ، لما في إفراد { رسول } من التفنن في صيغ الكلم من جمع وإفراد تفادياً من تتابع ثلاثة جموع لأن صيغ الجمع لا تخلو من ثقل لقلة استعمالها وعكسه قوله في سورة الفرقان ( 37 ) { وقومَ نوح لمّا كذَّبوا الرُسل أغرقناهم } ، وإنما كذبوا رسولاً واحداً ، وقوله : { كذبت قوم نوح المرسلين } وما بعده في سورة الشعراء ( 105 ) ، وقد تقدم تأويل ذلك في موضعه .
والأخذ : مستعمل في الإِهلاك ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } في سورة الأنعام ( 44 ) وفي مواضع أخرى .
و{ أخْذَةً } : واحدة من الأخذ ، فيراد بها أخذ فرعون وقومه بالغرق ، كما قال تعالى : { فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر } [ القمر : 42 ] ، وإذا أعيد ضمير الغائب إلى { فرعون ومن قبله والمؤتفكات } كان إفراد الأخذة كإفراد { رسول ربّهم ، } أي أخذنا كل أمة منهم أخذة .
والرابية : اسم فاعل من ربَا يَربو إذا زاد فلما صيغ منه وزن فاعلة ، قلبت الواو ياء لوقوعها متَحركة إثر كسرة .
واستعير الرُّبُوّ هنا للشدة كما تستعار الكثرة للشدة في نحو قوله تعالى : { وادعوا ثبوراً كثيراً } [ الفرقان : 14 ] .
والمراد بالأخذة الرابية : إهلاك الاستئصال ، أي ليس في إهلاكهم إبقاء قليل منهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فعصوا رسول ربهم}... {فأخذهم} الله {أخذة رابية} يعنى شديدة ربت عليهم في الشدة أشد من معاصيهم التي عملوها...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فعصى هؤلاء الذين ذكرهم الله، وهم فرعون ومن قبله والمؤتفكات رسول ربهم...
"فأخَذَهُمْ أخْذَةً رَابِيَةً ": فأخذهم ربهم بتكذيبهم رسله أخذة زائدة، شديدة، نامية، من قولهم: أربيت: إذا أخذ أكثر مما أعطى من الربا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فأخذهم أخذة رابية} أي عالية أي علت أبدانهم. وجائز أن يكون المراد منه أن عقوبتهم ربت على الأخذ، أي زادت على الأخذ، لأنها أخذت أبدانهم، وأهلكتها، ثم ردت أرواحهم إلى جهنم، فتعرض عليها غدوا وعشيا، فلذلك هو الزيادة على الأخذ والله اعلم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
ويقال: زاد العذاب على قدر أعمالهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{رَّابِيَةً} شديدة زائدة في الشدة، كما زادت قبائحهم في القبح...
قوله تعالى: {فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية} الضمير إن كان عائدا إلى {فرعون ومن قبله}، فرسول ربهم هو موسى عليه السلام، وإن كان عائدا إلى أهل المؤتفكات فرسول ربهم هو لوط، قال الواحدي: والوجه أن يقال: المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله، {فعصوا} فيكون كقوله: {إنا رسول رب العالمين}...
{فأخذهم أخذة رابية}:... عقوبة آل فرعون في الدنيا كانت متصلة بعذاب الآخرة، لقوله:
{أغرقوا فأدخلوا نارا}، وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وهذا جنس، أي: كُلّ كذّبَ رسول الله إليهم. كما قال: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14]. ومن كذب رسول الله فقد كذب بالجميع، كما قال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123]. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 141] وإنما جاء إلى كل أمة رسول واحد؛ ولهذا قال هاهنا: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} أي: عظيمة شديدة أليمة. قال مجاهد: {رابية} شديدة. وقال السدي: مهلكة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت الرسل كلهم جميعاً كالفرد الواحد لاتفاق مقاصدهم في الدعاء إلى الله والحمل على طاعته، قال مستأنفاً مسبباً عن مجيئهم بذلك موحداً في اللفظ ما هو صالح للكثير بإرادة الجنس: {فعصوا} أي خالفوا ونابذوا {رسول ربهم} أي خالفت كل أمة من أرسله المحسن إليها بإبداعها من العدم وإيداعها القوى وترزيقها وبعث رسولها لإرشادها اغتراراً بإحسانه، ولم يجوزوا أن المحسن يقدر على الضر كما قدر على النفع، لأنه الضار كما أنه النافع فللتنبيه على مثل ذلك لا يجوز نقل أحد الاسمين عن الآخر، وسبب عن العصيان قوله: {فأخذهم} أي ربهم أخذ قهر وغضب {أخذة} لم يبق من أمة منهم أحداً ممن كذب الرسول فلم يكن كمن ينصر على عدو من الآدميين لا بد من أن يفوته كثير منهم وإن اجتهد في الطلب، وما ذاك إلا لتمام علمه سبحانه وتعالى بالجزئيات والكليات، وشمول قدرته، وتلك الأخذة -مع كونها بهذه العظمة من أنها أخذتهم كنفس واحدة- جعلها سبحانه {رابية} أي عالية عليهم علية القدر في قوة البطش وشدة الفتك زائدة عن الحد نامية بقدر زيادة أعمالهم في القبح؛ فأغرق فرعون وجنوده، وأغرق كل من كذب نوحاً عليه السلام، وهم كل أهل الأرض غير من ركب معه في السفينة، وحمل مدائن لوط عليه السلام بعد أن نتقها من الأرض على متن الريح بواسطة من أمره بذلك من الملائكة ثم قلبها وأتبعها الحجارة وخسف بها وغمرها بالماء المنتن الذي ليس في الأرض ما يشبهه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فأخذهم أخذة رابية).. والرابية العالية الغامرة الطامرة. لتناسب (الطاغية) التي أخذت ثمود (والعاتية) التي أخذت عادا، وتناسب جو الهول والرعب في السياق بدون تفصيل ولا تطويل!
أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير للجزائري 1439 هـ :
من الهداية: -بيان أن معصية الرسول موجبة للعذاب الدنيوي والأخروي.