قوله تعالى : { ذلكم } الذي ذكرت من القتل ، والرمي ، والبلاء الحسن .
قوله تعالى : { وأن الله } ، قيل : فيه إضمار ، أي : { واعلموا } أن الله .
قوله تعالى : { موهن } ، مضعف .
قوله تعالى : { كيد الكافرين } . قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأهل البصرة : ( موهن ) بالتشديد والتنوين ، ( كيد ) نصب ، وقرأ الآخرون بالتخفيف والتنوين إلا حفصاً ، فإنه يضيفه فلا ينون ، ويخفض كيد .
( ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ) . .
وهذه أخرى بعد تلك الأولى ! إن التدبير لا ينتهي عند أن يقتل لكم أعداءكم بأيديكم ، ويصيبهم برمية رسولكم ، ويمنحكم حسن البلاء ليأجركم عليه . . إنما هو يضيف إليه توهين كيد الكافرين ، وإضعاف تدبيرهموتقديرهم . . فلا مجال إذن للخوف ، ولا مجال إذن للهزيمة ، ولا مجال إذن لأن يولي المؤمنون الأدبار عند لقاء الكفار . .
ويتصل السياق هنا بكل ملابسات المعركة . . فإذا كان الله هو الذي قتل المشركين ، وهو الذي رماهم ، وهو الذي أبلى المؤمنين فيها ذلك البلاء الحسن ، وهو الذي أوهن كيد الكافرين . . فما النزاع والاختلاف إذن في الأنفال ، والمعركة كلها أديرت بتدبير الله وبتقديره ، وليس لهم فيها إلا أن كانوا ستارا لهذا التدبير والتقدير? !
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكُمْ وَأَنّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : ذَلِكُمْ : هذا الفعل من قتل المشركين ورميهم حتى انهزموا ، وابتلاء المؤمنين البلاء الحسن بالظفر بهم وإمكانهم من قتلهم وأسرهم ، فعلنا الذي فعلنا . وأنّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدَ الكافِرِينَ يقول : واعلموا أن الله مع ذلك مضعف كيد الكافرين ، يعني مكرهم ، حتى يذلوا ، وينقادوا للحقّ ويهلكوا . وفي فتح «أن » من الوجوه ما في قوله : ذَلِكُمْ فَذُوقوهُ وأنّ للْكافِرِينَ وقد بيّنته هنالك .
وقد اختلفت القرّاء في قراءة قوله : مُوهِنُ . فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة وبعض المكيين والبصريين : «مُوَهّنٌ » بالتشديد ، من وهّنت الشيء : ضعّفته . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : مُوهِنُ من أوهنته فأنا موهنه ، بمعنى أضعفته . والتشديد في ذلك أعجب إليّ لأن الله تعالى كان ينقض ما يبرمه المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، عقدا بعد عقد ، وشيئا بعد شيء ، وإن كان الاَخر وجها صحيحا .
وقوله { ذلكم } إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم ، وموضع { ذلكم } من الإعراب رفع ، قال سيبويه : التقدير الأمر ذلكم ، وقال بعض النحويين : يجوز أن يكون في موضع نصب بتقدير فعل ذلكم { وأن } معطوف على { ذلكم } ويحتمل أن يكون خبر ابتداء مقدر تقديره وحتم وسابق وثابت ونحو هذا ، وقرأت فرقة «وإن » بكسر الهمزة على القطع والاستئناف ، و { موهن } معناه مضعف مبطل ، يقال وهن الشيء مثل وعد يعد ، ويقال وهن مثل ولي يلي ، وقرىء{ فما وهنوا لما أصابهم }{[5270]} بكسر الهاء ، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر عن عاصم «موهن كيد » من أوهن ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «موهن كيد » من وهن ، وقرأ حفص عن عاصم «موهن كيدِ » بكسر الدال والإضافة{[5271]} ، وذكر الزجّاج أن فيها أربعة أوجه فذكر هذه القراءات الثلاث ، وزاد «موهّن كيد » بتشديد الهاء والإضافة إلا أنه لم ينص أنها قراءة .
الإشارة ب { ذلكم } إلى البلاء الحسن وهذه الإشارة لمجرد تأكيد المقصود من البلاء الحسن وأن ذلك البلاء علة للتوهين .
واسم الإشارة يفتتح به الكلام لمقاصد يجمعها التنبيه على أهمية ما يرد بعده كقوله تعالى : { هذا وإن للطاغين لشر مئابٍ } [ ص : 55 ] ويجيء في الكلام الوارد تعليلاً كقوله تعالى : { ذلك بما قدمت أيديكم } [ الأنفال : 51 ] .
وعليه فاسم الإشارة هنا مبتدأ حذف خبره وعطف عليه جملة : { وأن الله موهن كيد الكافرين } .
وقوله : { وأن الله } بفتح همزة ( أن ) ، فما بعدها في تأويل مصدر ، مجرور بلام التعليل محذوفة ، والتقدير ولتوهين كيد الكافرين .
ويجوز أن تكون الإشارة ب { ذلكم } إلى الأمرين ، وهو ما اقتضاه قوله : { وما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] من تعليل الرمي بخذل المشركين وهزمهم وإبلاء المؤمنين البلاء الحسن .
وإفراد اسم الإشارة مع كون المشار إليه اثنين على تأويل المشار إليه بالمذكور كما تقدم في نظيره في سورة البقرة .
و { كيد الكافرين } هو قصدهم الإضرار بالمسلمين في صورة ليست ظاهرها بمضرة ، وذلك أن جيش المشركين الذين جاءوا لإنقاذ العِير لمّا علموا بنجاة عيرهم ، وظنوا خيبة المسلمين الذين خرجوا في طلبها ، أبوا أن يرجعوا إلى مكة ، وأقاموا على بدر لينحروا ويشربوا الخمر ويضربوا الدفوف فرحاً وافتخاراً بنجاة عيرهم ، وليس ذلك لمجرد اللهو ، ولكن ليتسامع العرب فيتساءلوا عن سبب ذلك فيخبروا بأنهم غلبوا المسلمين فيصرفهم ذلك عن إتباع الإسلام ، فأراد الله توهينهم بهزمهم تلك الهزيمة الشنعاء فهو موهن كيدهم في الحال وتقدم تفسير ، الكيد عند قوله تعالى : { وأملي لهم إن كيدي متينٌ } في سورة [ الأعراف : 183 ] .
وقرأ نافع وابن كثير ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، { مُوَهِّنٌ } بفتح الواو وبتشديد الهاء وبالتنوين ونصب { كيدَ } ، وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وخلف ، ويعقوب ، { مُوهِنٌ } بتسكين الواو وتخفيف الهاء ونصب { كيد } والمعنى على القراءتين سواء ، وقرأ حفص عن عاصم بإضافة { مُوهِنٌ } إلى { كيد } ، والمعنى وهي إضافة لفظية مساوية للتنكير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذلكم} النصر، {وأن الله موهن}، يعنى مضعف، {كيد الكافرين}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله:"ذَلِكُمْ": هذا الفعل من قتل المشركين ورميهم حتى انهزموا، وابتلاء المؤمنين البلاء الحسن بالظفر بهم وإمكانهم من قتلهم وأسرهم، فعلنا الذي فعلنا. "وأنّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْد الكافِرِينَ "يقول: واعلموا أن الله مع ذلك مضعف كيد الكافرين، يعني: مكرهم حتى يذلوا وينقادوا للحقّ ويهلكوا...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
موهن كدهم: بتقوية قلوب المؤمنين بنور اليقين، والثبات على انتظار الفضل من قِبَلِ الله، وموهن كيدهم: بأن يأخذَ الكافرين من حيث لا يشعرون، ويظفر جند المسلمين عليهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
"ذلكم "إشارة إلى البلاء الحسن...: أي الغرض ذلكم "وأن الله موهن" معطوف على "ذلكم". يعني: أن الغرض إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين.
توهين الله تعالى كيدهم. يكون بأشياء بإطلاع المؤمنين على عوراتهم، وإلقاء الرعب في قلوبهم، وتفريق كلمتهم، ونقض ما أبرموا بسبب اختلاف عزائمهم. قال ابن عباس ينبئ رسول الله ويقول: إني قد أوهنت كيد عدوك حتى قتلت خيارهم وأسرت أشرافهم...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
وقوله {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر: أنه أعلمهم تعالى بأنه مُضْعِفُ كيد الكافرين فيما يستقبل، مُصَغِّرًا أمرهم، وأنهم كل ما لهم في تبار ودمار، ولله الحمد والمنة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
"موهن" الشيء: مضعفه... والكيد: التدبير الذي يقصد به غير ظاهره فتسوء غايته المكيد به كما تقدم في تفسير الآية 183 من سورة الأعراف...
ولما كان من سنة القرآن بالمقابلة بين الإيمان والكفر وبين أهل كل منهما وجزائهما عليهما قال: {ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين} أي الأمر في المؤمنين وفائدتهم مما تقدم هو ذلكم الذي سمعتم، ويضاف إليه تعليل آخر وهو أن الله تعالى موهن كيد الكافرين، أي مضعف كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ومحاولتهم القضاء على دعوة التوحيد والإصلاح قبل أن تقوى وتشتد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه أخرى بعد تلك الأولى! إن التدبير لا ينتهي عند أن يقتل لكم أعداءكم بأيديكم، ويصيبهم برمية رسولكم، ويمنحكم حسن البلاء ليأجركم عليه.. إنما هو يضيف إليه توهين كيد الكافرين، وإضعاف تدبيرهم وتقديرهم.. فلا مجال إذن للخوف، ولا مجال إذن للهزيمة، ولا مجال إذن لأن يولي المؤمنون الأدبار عند لقاء الكفار.. ويتصل السياق هنا بكل ملابسات المعركة.. فإذا كان الله هو الذي قتل المشركين، وهو الذي رماهم، وهو الذي أبلى المؤمنين فيها ذلك البلاء الحسن، وهو الذي أوهن كيد الكافرين.. فما النزاع والاختلاف إذن في الأنفال، والمعركة كلها أديرت بتدبير الله وبتقديره، وليس لهم فيها إلا أن كانوا ستارا لهذا التدبير والتقدير؟!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و {كيد الكافرين} هو قصدهم الإضرار بالمسلمين في صورة ليست ظاهرها بمضرة، وذلك أن جيش المشركين الذين جاءوا لإنقاذ العِير لمّا علموا بنجاة عيرهم، وظنوا خيبة المسلمين الذين خرجوا في طلبها، أبوا أن يرجعوا إلى مكة، وأقاموا على بدر لينحروا ويشربوا الخمر ويضربوا الدفوف فرحاً وافتخاراً بنجاة عيرهم، وليس ذلك لمجرد اللهو، ولكن ليتسامع العرب فيتساءلوا عن سبب ذلك فيخبروا بأنهم غلبوا المسلمين فيصرفهم ذلك عن إتباع الإسلام، فأراد الله توهينهم بهزمهم تلك الهزيمة الشنعاء فهو موهن كيدهم في الحال وتقدم تفسير، الكيد عند قوله تعالى: {وأملي لهم إن كيدي متينٌ} في سورة [الأعراف: 183]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
. وأتى بضمير الخطاب للجمع، لإعلام الجميع بذلك النصر... أي ذلك النصر المؤزر ثابت لكم وحسبه نعمة أنعم بها عليكم، فالنصر وحده له فرحة شديدة، فتقبلوا نعمة الله فيه، وعطف على هذا النصر أمر آخر جليل في ذاته وهو ثمرة النصر، وهو قوله تعالى: {وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} فموهن معطوف على ما يفهم من الكلام السابق وهو فرق بشرى النصر بشرى إضعاف وتوهين شأن المشركين وكيدهم، لقد كانوا أصحاب القوة والسطوة، والسلطان والشرف في البلاد العربية وكانوا يستطيلون بكل ذلك على المؤمنين، فلما جاء النصر المبين لتلك الفئة الصغيرة واستطالت عليهم ونالت النصر دونهم وهنوا في أنفسهم، وإذا وهنوا في ذات أنفسهم وهن كيدهم للمسلمين، وهو تدبيرهم، وتأليبهم العرب عليهم، وحربهم، وصاروا يرهبونهم بعد أن كانوا يستضعفونهم، ويرون فيهم العزة. فهذه الحرب المقدسة كان لها ثمرتان دانيتان: إحداهما – النصر في ذاته، وأن صارت كلمة الله هي العليا وكلمة الشرك هي السفلى، وتلك نعمة أنعم الله تعالى بها عليهم. الثانية – أنه انتهى عهد الاستهانة بالمسلمين واستعلاء المشركين عليهم ووهن أمر الكافرين لديهم فكانت تلك هي الضربة القاصمة التي كسرت أنفتهم وكبرياءهم. وعبر الله تعالى بالكافرين لبيان أن الكفر هو السبب في وهنهم، والله من ورائهم...
...سبحانه وتعالى هنا يخبرنا أنه موهن كيد الكافرين، أي يضعف هذا الكيد، ولسائل أن يقول: لماذا لا ينهاهم؟ ولماذا يضعف الكفر فقط؟ ونقول: إن إضعاف الكفر يُهيّج على الإيمان ويحبب المؤمنين في الإيمان حين يرون آثار الكفر التي تفسد في الأرض وهي تضعف، ولأن الحمية الإيمانية تزيد حين يهاجم الإسلام من خصومه. إذن فبقاء الكفر لون من استبقاء الإيمان...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ} في ما يدبرونه أو يخطّطونه لهزيمة المؤمنين وإضعافهم، من أجل إضعاف الإيمان في الحياة. فقد ينجحون في بعض المراحل والمواقع، ولكن النهاية هي الفشل والهزيمة...