تعكس هذه السورة صورة من الصور الواقعية في حياة الدعوة في عهدها الأول . وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة . . صورة اللئيم الصغير النفس ، الذي يؤتى المال فتسيطر نفسه به ، حتى ما يطيق نفسه ! ويروح يشعر أن المال هو القيمة العليا في الحياة . القيمة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار : أقدار الناس . وأقدار المعاني . وأقدار الحقائق . وأنه وقد ملك المال فقد ملك كرامات الناس وأقدارهم بلا حساب !
كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء ؛ لا يعجز عن فعل شيء ! حتى دفع الموت وتخليد الحياة . ودفع قضاء الله وحسابه وجزائه إن كان هناك في نظره حساب وجزاء !
ومن ثم ينطلق في هوس بهذا المال يعده ويستلذ تعداده ؛ وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة ، تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس وكراماتهم . ولمزهم وهمزهم . . يعيبهم بلسانه ويسخر منهم بحركاته . سواء بحكاية حركاتهم وأصواتهم ، أو بتحقير صفاتهم وسماتهم . . بالقول والإشارة . بالغمز واللمز . باللفتة الساخرة والحركة الهازئة !
وهي صورة لئيمة حقيرة من صور النفس البشرية حين تخلو من المروءة وتعرى من الإيمان . والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة من صور النفوس بحكم ترفعه الأخلاقي . وقد نهى عن السخرية واللمز والعيب في مواضع شتى . إلا أن ذكرها هنا بهذا التشنيع والتقبيح مع الوعيد والتهديد ، يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتجاه المؤمنين . . فجاء الرد عليها في صورة الردع الشديد ، والتهديد الرعيب . وقد وردت روايات بتعيين بعض الشخصيات . ولكنها ليست وثيقة . فنكتفي نحن بما قررناه عنها . .
والتهديد يجيء في صورة مشهد من مشاهد القيامة يمثل صورة للعذاب مادية ونفسية ، وصورة للنار حسية ومعنوية . وقد لوحظ فيها التقابل بين الجرم وطريقة الجزاء وجو العقاب . فصورة الهمزة اللمزة ، الذي يدأب على الهزء بالناس وعلى لمزهم في أنفسهم وأعراضهم ، وهو يجمع المال فيظنه كفيلا بالخلود ! صورة هذا المتعالي الساخر المستقوي بالمال ، تقابلها صورة " المنبوذ " المهمل المتردي في( الحطمة )التي تحطم كل ما يلقى إليها ، فتحطم كيانه وكبرياءه . وهي( نار الله الموقدة )وإضافتها لله وتخصيصها هكذا يوحي بأنها نار فذة ، غير معهودة ، ويخلع عليها رهبة مفزعة رعيبة .
وهي( تطلع )على فؤاده الذي ينبعث منه الهمز واللمز ، وتكمن فيه السخرية والكبرياء والغرور . . وتكملة لصورة المحطم المنبوذ المهمل . . هذه النار مغلقة عليه ، لا ينقذه منها أحد ، ولا يسأل عنه فيها أحد ! وهو موثق فيها إلى عمود كما توثق البهائم بلا احترام ! وفي جرس الألفاظ تشديد : عدده . كلا . لينبذن . تطلع . ممددة وفي معاني العبارات توكيد بشتى أساليب التوكيد : ( لينبذن في الحطمة . وما أدراك ما الحطمة ? نار الله الموقدة . . )فهذا الإجمال والإبهام . ثم سؤال الاستهوال . ثم الإجابة والبيان . . كلها من أساليب التوكيد والتضخيم . . وفي التعبير تهديد ( ويل . لينبذن . الحطمة . . . نار الله الموقدة . التي تطلع على الأفئدة . إنها عليهم مؤصدة . في عمد ممددة ) . .
وفي ذلك كله لون من التناسق التصويري والشعوري يتفق مع فعلة( الهمزة اللمزة ) !
لقد كان القرآن يتابع أحداث الدعوة ويقودها في الوقت ذاته . وكان هو السلاح البتار الصاعق الذي يدمر كيد الكائدين ، ويزلزل قلوب الأعداء ويثبت أرواح المؤمنين .
وإنا لنرى في عناية الله سبحانه بالرد على هذه الصورة معنيين كبيرين :
الأول : تقبيح الهبوط الأخلاقي وتبشيع هذه الصورة الهابطة من النفوس .
والثاني : المنافحة عن المؤمنين وحفظ نفوسهم من أن تتسرب إليها مهانة الإهانة ، وإشعارهم بأن الله يرى ما يقع لهم ، ويكرهه ، ويعاقب عليه . . وفي هذا كفاية لرفع أرواحهم واستعلائها على الكيد اللئيم . . .
وقوله : { الّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدّدَهُ } يقول : الذي جمع مالاً وأحصى عدده ، ولم ينفقه في سبيل الله ، ولم يؤدّ حقّ الله فيه ، ولكنه جمعه فأوعاه وحفظه .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه من قرّاء أهل المدينة أبو جعفر ، وعامة قرّاء الكوفة سوى عاصم : «جَمّع » بالتشديد ، وقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والحجاز ، سوى أبي جعفر وعامة قرّاء البصرة ، ومن الكوفة عاصم ، «جَمَع » بالتخفيف ، وكلهم مجمعون على تشديد الدال من عَدّدَهُ ، على الوجه الذي ذكرت من تأويله . وقد ذُكر عن بعض المتقدّمين بإسناد غير ثابت ، أنه قرأه : «جَمَعَ مالاً وَعَدَدَهُ » بتخفيف الدال ، بمعنى : جمع مالاً ، وجمع عشيرته وعَدَدَه . هذه قراءة لا أستجيز القراءة بها ، بخلافِها قراءة الأمصار ، وخروجِها عما عليه الحجة مجمعة في ذلك .
وأما قوله : { جَمَعَ مالاً } فإن التشديد والتخفيف فيهما صوابان ؛ لأنهما قراءتان معروفتان في قَرَأَة الأمصار ، متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب .
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي والحسن وأبو جعفر : «جمّع » بشدة الميم ، والباقون بالتخفيف ، وقوله { وعدده } معناه : أحصاه وحافظ على عدده وأن لا ينتقص ، فمنعه من الخيرات ونفقة البر . وقال مقاتل : المعنى استعده وذخره . وقرأ الحسن : «وعدَدَه » بتخفيف الدالين ، فقيل : المعنى جمع مالاً وعدداً من عشرة ، وقيل : أراد عدداً مشدداً ، فحل التضعيف ، وهذا قلق .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
الذي جمع مالاً وأحصى عدده ، ولم ينفقه في سبيل الله ، ولم يؤدّ حقّ الله فيه ، ولكنه جمعه فأوعاه وحفظه ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قرئ على التخفيف . جمع من الجمع ، أي جمع ماله عنده ، ولم يفرقه ، وعدده ، وذكره ، أي حفظ عدده ، وذكره على الدوام لئلا ينقصه ، وصفه بالبخل والشح . ومن قرأ بالتشديد فمعناه أنه جمعه ، وادّخر بمر الزمان ، ولم يجمع ذلك في أيام قصيرة . والأصل : جمعه بالتخفيف ، لكن شدده لما فيه من زيادة الجمع . ...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
أحدها : يعني أحصى عدده ، قاله السدي .
الثاني : عددّ أنواع ماله ، قاله مجاهد .
الثالث : لما يكفيه من السنين ، قاله عكرمة .
الرابع : اتخذ ماله لمن يرثه من أولاده .
ويحتمل خامساً : أنه فاخر بعدده وكثرته ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... قيل : { عدّده } جعله عدة لحوادث الدهر .
وإنما وصفه الله تعالى بهذا الوصف لأنه يجري مجرى السبب والعلة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال ، وظنه أن الفضل فيه لأجل ذلك فيستنقص غيره . ....وأما قوله : { مالا } فالتنكير فيه يحتمل وجهين؛
( أحدهما ) : أن يقال : المال اسم لكل ما في الدنيا كما قال : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } فمال الإنسان الواحد بالنسبة إلى مال كل الدنيا حقير ، فكيف يليق به أن يفتخر بذلك القليل.
( والثاني ) : أن يكون المراد منه التعظيم أي مال بلغ في الخبث والفساد أقصى النهايات . فكيف يليق بالعاقل أن يفتخر به ؟
أما قوله : { وعدده } ففيه وجوه؛
أحدها أنه مأخوذ من العدة وهي الذخيرة يقال : أعددت الشيء لكذا وعددته إذا أمسكته له وجعلته عدة وذخيرة لحوادث الدهر.
( وثانيها ) : عدده أي أحصاه وجاء التشديد لكثرة المعدود كما يقال : فلان يعدد فضائل فلان ، ولهذا قال السدي : وعدده أي أحصاه يقول : هذا لي وهذا لي، يلهيه ماله بالنهار فإذا جاء الليل كان يخفيه.
( وثالثها ) : عدده أي كثره يقال : في بني فلان عدد أي كثرة ، وهذان القولان الأخيران راجعان إلى معنى العدد ، والقول الثالث إلى معنى العدة ....
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال الإمام : أي أن الذي يحمله على الحط من أقدار الناس هو جمعه المال وتعديده ، أي عده مرة بعد أخرى شغفا وتلذذا بإحصائه ؛ لأنه لا يرى عزا ولا شرفا ولا مجدا في سواه . فكلما نظر إلى كثرة ما عنده منه انتفخ وظن أنه من رفعة المكانة بحيث يكون كل ذي فضل ومزية دونه ، فهو يهزأ به ويهمزه ويلمزه ، ثم لا يخشى أن يصيبه عقوبة على الهمز واللمز وتمزيق العرض ؛ لأن غروره بالمال أنساه الموت ، وصرف عنه ذكر المآل ، فهو{ يحسب أن ماله أخلده } . ...
أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :
وليس العيب في جَمَع مالاً ؛ بل في عدده ، يحسب أن ماله أخلده . وفي عدده عدة معان : قيل : عدَّده كل وقت وآخر ، تحفظًا عليه . وقيل : عدده كنزه . [...] والمراد به من لم يؤد حق الله فيه شحاً وبخلا ، كما تقدم في سورة { أَلْهَاكُمُ التَّكَّاثُرُ } . ...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
هذا وعيد من الله بالخصوص لأولئك الذين يطغيهم الغنى والمال ، فينظرون إلى من دونهم من الفقراء نظرة التحقير والازدراء ، ويتخذون منهم مادة رخيصة لسخريتهم وهمزهم ولمزهم من أجل كونهم ضعفاء . ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ تذكر الآية التالية منبع ظاهرة اللمز والهمز في الأفراد ، وترى أنّها تنشأ غالباً من كبر وغرور ناشئين بدورهما من تراكم الثروة لدى هؤلاء الأفراد ، وتقول : { الذي جمع مالاً وعدّده } بطريق مشروع أو غير مشروع . فهو انشدّ بالمال انشداداً جعله منشغلاً دائماً بعدّ المال والالتذاذ ببريق الدرهم والدينار . تحول الدرهم والدينار عنده إلى وثن ، ويرى فيه شخصيته ، وينظر من خلاله أيضاً إلى شخصية الآخرين . ومن الطبيعي أن يكون تعامل مثل هذا الإنسان الضال الأبله بالسخرية والاستهزاء مع المؤمنين الفقراء . «عدده » من ( عدّ ) بمعنى حَسَب . وقيل : من ( العُدّة ) ، بمعنى تجهيز الأموال ليوم الشدّة . وقيل : إنّها تعني أمسكه وحفظه . والمعنى الأوّل أظهر . على أي حال ، هذه الآية تقصد الذين يدخّرون الأموال ولا ينظرون إليها باعتبارها وسيلة ؛ بل هدفاً ، ولا يحدهم قيد أو شرط في جمعها ، حتى ولو كان من طريق الحرام والاعتداء على حقوق الآخرين ، وارتكاب كلّ دنيئة ورذيلة ، ويعتبرون ذلك دليلاً على عظمتهم وشخصيتهم . هؤلاء لا يريدون المال لسد حاجاتهم الحياتية ، ولذلك يزداد حرصهم على جمع المال كلّما كثرت أموالهم . وإلاّ فإن المال في الحدود المعقولة ومن الطرق المشروعة ليس بمذموم ؛ بل إنّ القرآن الكريم عبّر عنه في موضع بأنّه «فضل اللّه » حيث يقول تعالى : { وابتغوا من فضل اللّه } . وفي موضع آخر يسميه خيراً ، كقوله سبحانه : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية } . مثل هذا المال ليس بالتأكيد مبعث طغيان ، ولا وسيلة تفاخر ، ولا دافع سخرية بالآخرين . لكن المال الذي يصبح معبوداً وهدفاً نهائياً ، ويدعو أصحابه من أمثال «قارون » إلى الطغيان ، هو العار والذلة والمأساة ومبعث البعد عن اللّه والخلود في النّار . ومثل هذا المال لا يمكن جمعه وعدّه إلاّ بالسقوط في أوحال الحرام .....