وكذلك تنبثق من هذا النص صور لا عداد لها في الحس .
أمات وأحيا . . أنشأ الموت والحياة ، كما قال في سورة أخرى : ( الذي خلق الموت والحياة ) . وهما أمران معروفان كل المعرفة بوقوعهما المتكرر . ولكنهما خافيان كل الخفاء حين يحاول البشر أن يعرفوا طبيعتهما وسرهما الخافي على الأحياء . . فما الموت ? وما الحياة ? ما حقيقتهما حين يتجاوز الإنسان لفظهما وشكلهما الذي يراه ? كيف دبت الحياة في الكائن الحي ? ما هي ? ومن أين جاءت ? وكيف تلبست بهذا الكائن فكان ? وكيف سارت في طريقها الذي سارت فيه بهذا الكائن أو بهذه الكائنات الأحياء ? وما الموت ? وكيف كان . . قبل دبيب الحياة . وبعد مفارقتها للأحياء ? إنه السر الخافي وراء الستر المسبل ، بيد الله !
أمات وأحيا . . وتنبثق ملايين الصور من الموت والحياة . في عوالم الأحياء كلها . في اللحظة الواحدة . في هذه اللحظة . كم ملايين الملايين من الأحياء ماتت . وكم ملايين الملايين بدأت رحلة الحياة . ودب فيها هذا السر من حيث لا تعلم ومن حيث لا يعلم أحد إلا الله ! وكم من ميتات وقعت فإذا هي ذاتها بواعث حياة ! وكم من هذه الصور يتراءى على مدار القرون ، حين يستغرق الخيال في استعراض الماضي الطويل ، الذي كان قبل أن يكون الإنسان كله على هذا الكوكب . وندع ما يعلمه الله في غير هذا الكوكب من أنواع الموت والحياة التي لا تخطر على بال الإنسان !
إنها حشود من الصور وحشود ، تطلقها هذه الكلمات القلائل ، فتهز القلب البشري من أعماقه . فلا يتمالك نفسه ولا يتماسك تحت إيقاعاتها المنوعة الأصداء !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنّهُ خَلَقَ الزّوْجَيْنِ الذّكَرَ وَالاُنثَىَ * مِن نّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىَ * وَأَنّ عَلَيْهِ النّشْأَةَ الاُخْرَىَ } .
يقول تعالى ذكره : وأنه هو أمات من مات من خلقه ، وهو أحيا من حيي منهم . وعنى بقوله : أحْيا نفخ الروح في النطفة الميتة ، فجعلها حية بتصييره الروح فيها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأنه هو أمات} الأحياء {وأحيا} الموتى...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأنه هو أمات من مات من خلقه، وهو أحيا من حيي منهم. وعنى بقوله:"أحْيا "نفخ الروح في النطفة الميتة، فجعلها حية بتصييره الروح فيها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: أي جعلهم بحيث يموتون وبحيث يحيَون.
والثاني: {أمات} بإخراج الرّوح {وأحيا} بإدخال الروح فيهم، وهو كقوله تعالى: {خلق الموت والحياة} [الملك: 2] وقوله: {خلقكم ثم رزقكم ثم يُميتكم ثم يُحييكم} [الروم: 40] فيحتمل إماتتهم في الدنيا وإحياءهم في الآخرة. وأصل ذلك أنه يفعل بهم كل ما ذكرنا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(وأنه هو أمات وأحيا) معناه إنه تعالى الذي يخلق الموت فيميت به الأحياء لا يقدر على الموت غيره، لأنه لو قدر على الموت غيره لقدر على الحياة، لأن القادر على الشيء قادر على ضده، ولا أحد يقدر على الحياة إلا الله. وقوله (وأحيا) أي هو الذي يقدر على الحياة التي يحيي بها الحيوان لا يقدر عليها غيره من جميع المحدثات...
ثم قال تعالى: {وأنه هو أمات وأحيا} والبحث فيه كما في الضحك والبكاء، غير أن الله تعالى في الأول بين خاصة النوع الذي هو أخص من الجنس، فإنه أظهر وعن التعليل أبعد ثم عطف عليه ما هو أعم منه ودونه في البعد عن التعليل وهي الإماتة والإحياء وهما صفتان متضادتان أي الموت والحياة كالضحك والبكاء والموت على هذا ليس بمجرد العدم وإلا لكان الممتنع ميتا، وكيفما كان فالإماتة والإحياء أمر وجودي وهما من خواص الحيوان...
فقال تعالى: الذي خلق ومزج العناصر وحفظها مدة قادر على أن يحفظها أكثر من ذلك فإذا مات فليس عن ضرورة فهو بفعل فاعل مختار وهو الله تعالى: (فهو الذي أمات وأحيا).
فإن قيل: متى أمات وأحيا حتى يعلم ذلك بل مشاهدة الإحياء والإماتة بناء على الحياة والموت؟
(أحدها) أنه على التقديم والتأخير كأنه قال: أحيا وأمات.
(ثانيها) هو بمعنى المستقبل، فإن الأمر قريب يقال: فلان وصل والليل دخل إذا قرب مكانه وزمانه، فكذلك الإحياء والإماتة.
(ثالثها) أمات أي خلق الموت والجمود في العناصر، ثم ركبها وأحيا أي خلق الحس والحركة فيها.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانت الإماتة والإحياء أعظم تنافياً بما مضى، فكانت القدرة على إيجادها في الشخص الواحد أعظم ما يكون، وكان ربما نسب إلى من قتل أو داوى من مرض أو أطلق من وجب قتله، أكد فقال: {وأنه هو} أي لا غيره. ولما كان الإلباس في الموت أكبر، وكان الموت انسب للبكاء، والإحياء أنسب للضحك، وكان طريق النشر المشوش أفصح، قدمه فقال: {أمات وأحيا} وإن رأيتم أسباباً ظاهرية فإنه لا عبرة بها أصلاً في نفس الأمر بل هو الذي خلقها...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وأنه هو أمات وأحيا).. وكذلك تنبثق من هذا النص صور لا عداد لها في الحس. أمات وأحيا.. أنشأ الموت والحياة، كما قال في سورة أخرى: (الذي خلق الموت والحياة). وهما أمران معروفان كل المعرفة بوقوعهما المتكرر. ولكنهما خافيان كل الخفاء حين يحاول البشر أن يعرفوا طبيعتهما وسرهما الخافي على الأحياء.. فما الموت؟ وما الحياة؟ ما حقيقتهما حين يتجاوز الإنسان لفظهما وشكلهما الذي يراه؟ كيف دبت الحياة في الكائن الحي؟ ما هي؟ ومن أين جاءت؟ وكيف تلبست بهذا الكائن فكان؟ وكيف سارت في طريقها الذي سارت فيه بهذا الكائن أو بهذه الكائنات الأحياء؟ وما الموت؟ وكيف كان.. قبل دبيب الحياة. وبعد مفارقتها للأحياء؟ إنه السر الخافي وراء الستر المسبل، بيد الله! أمات وأحيا.. وتنبثق ملايين الصور من الموت والحياة. في عوالم الأحياء كلها. في اللحظة الواحدة. في هذه اللحظة. كم ملايين الملايين من الأحياء ماتت. وكم ملايين الملايين بدأت رحلة الحياة. ودب فيها هذا السر من حيث لا تعلم ومن حيث لا يعلم أحد إلا الله!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقل من الاعتبار بانفراد الله بالقدرة على إيجاد أسباب المسرة والحزن وهما حالتان لا تخلو عن إحداهما نفس الإِنسان إلى العبرة بانفراده تعالى بالقدرة على الإِحياء والإِماتة، وهما حالتان لا يخلو الإِنسان عن إحداهما فإن الإِنسان أول وجوده نطفة ميتة ثم علقة ثم مضغة {قطعة ميتة وإن كانت فيها مادة الحياة إلا أنها لم تبرز مظاهر الحياة فيها} ثم ينفخ فيه الروح فيصير إلى حياة وذلك بتدبير الله تعالى وقدرته...