قوله تعالى : { بل متعت هؤلاء وآباءهم } يعني : المشركين في الدنيا ، ولم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم ، { حتى جاءهم الحق } أي القرآن ، وقال الضحاك : الإسلام . { ورسول مبين } يبين لهم الأحكام وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان من حق هذا الإنعام أن يطيعوه ، فلم يفعلوا ، وعصوا ، وهو قوله{ ولما جاءهم الحق } .
بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين . ولما جاءهم الحق قالوا : هذا سحر وإنا به كافرون . وقالوا : لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ! أهم يقسمون رحمة ربك ? نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ، ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ، ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً ، ورحمة ربك خير مما يجمعون . ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة ومعارج عليها يظهرون ، ولبيوتهم أبواباً وسرراً عليها يتكئون ، وزخرفاً ، وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا ؛ والآخرة عند ربك للمتقين . .
يُضرب السياق عن حديث إبراهيم ، ويلتفت إلى القوم الحاضرين :
( بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين ) . .
وكأنه بهذا الإضراب يقول : لندع حديث إبراهيم ، فما لهم به صلة ولا مناسبة ؛ ولننظر في شأن هؤلاء وهو لا يتصل بشأن إبراهيم . . إن هؤلاء وآباءهم من قبلهم ، قد هيأت لهم المتاع ومددت لهم في الأجل ، حتى جاءهم الحق في هذا القرآن ، وجاءهم رسول مبين ، يعرض عليهم هذا الحق في وضوح وتبيين :
القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ مَتّعْتُ هََؤُلاَءِ وَآبَآءَهُمْ حَتّىَ جَآءَهُمُ الْحَقّ وَرَسُولٌ مّبِينٌ * وَلَمّا جَآءَهُمُ الْحَقّ قَالُواْ هََذَا سِحْرٌ وَإِنّا بِهِ كَافِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : بَلْ مَتّعْتُ يا محمد هَؤُلاءِ المشركين من قومك وآباءَهُمْ من قبلهم بالحياة ، فلم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم حتى جاءَهُمُ الحَقّ يعني جلّ ثناؤه بالحقّ : هذا القرآن : يقول : لم أهلكهم بالعذاب حتى أنزلت عليهم الكتاب ، وبعثت فيهم رسولاً مبينا . يعني بقوله : وَرَسُولٌ مُبِينٌ : محمدا صلى الله عليه وسلم ، والمبين : أنه يبين لهم بالحجج التي يحتجّ بها عليهم أنه لله رسول محقّ فيما يقول .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{بل متعت هؤلاء} يعني كفار مكة.
{وآباءهم حتى جاءهم الحق} يعني القرآن.
{ورسول مبين}، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم بين أمره...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"بَلْ مَتّعْتُ" يا محمد هَؤُلاءِ المشركين من قومك "وآباءَهُمْ "من قبلهم بالحياة، فلم أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم "حتى جاءَهُمُ الحَقّ" يعني جلّ ثناؤه بالحقّ: هذا القرآن: يقول: لم أهلكهم بالعذاب حتى أنزلت عليهم الكتاب، وبعثت فيهم رسولاً مبينا. يعني بقوله: "وَرَسُولٌ مُبِينٌ": محمدا صلى الله عليه وسلم، والمبين: أنه يبين لهم بالحجج التي يحتجّ بها عليهم أنه لله رسول محقّ فيما يقول.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أخبر أنه متّعهم وآباءهم في مكان لا نبات فيه، ولا زرع، ولا ماء. سخّر الناس، وحملهم على أن يحملوا إليهم الطعام والأغذية وأنواع الفواكه من الأمكنة البعيدة، ويجلُبوا إليهم ما ذكرنا من تمتيعهم إياهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أَرْخَيْنَا عنانَ إمهالهم مدةً، ثم كان أمرُهم أَنْ انتصرْنا منهم، ودَمّرْناهم أجْمعين...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
كان ينبغي لهم أن يقابلوا النعم بالطاعة للرسول، فخالفوا...
وجه النظم أنهم لما عولوا على تقليد الآباء ولم يتفكروا في الحجة؛ اغتروا بطول الإمهال وإمتاع الله إياهم بنعيم الدنيا فأعرضوا عن الحق...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان من المعلوم أن السامع يقول لمن أحاط علمه بهم ويعلم سرهم وعلنهم: يا رب! بل رجعوا، أجيب بقوله: {بل} أي لم يرجعوا بل استمروا لأجل إظهاري لقدرتي على القلوب بإقحام أربابها برضاهم واختيارهم في أقبح الخطوب وأفحش الذنوب على ترك الطريق المنيع والصراط الأقوم وزاغوا عنه زيغاً عظيماً، واستمروا في ضلالهم وتيههم ولم أعاجلهم بالعقوبة لأني {متعت} بإفراده ضميره سبحانه؛ لأن التمتيع يتضمن إطالة العمر التي لا يقدر عليها ظاهراً ولا باطناً سواه، وأما الانتقام فقد يجعله بأيدي عباده من الملائكة وغيرهم فهو من وادي {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم إن كيدي متين} [القلم: 45] {هؤلاء} أي الذين بحضرتك من المشركين وأعداء الدين {وآباءهم} فمددت من الأعمار مع سلامة الأبدان ومتانة الأركان، وإسباغ النعم والإعفاء من البلايا والنقم، فأبطرتهم نعمي وأزهدتهم أيادي جودي وكرمي، وتمادى بهم ركوب ذلك الباطل.
{حتى جاءهم الحق} بهذا الدين المتين {ورسول مبين} أي أمره ظاهر في نفسه، لو لم تكن فيه آيات مبينة كانت بديهية تنبئك بالخبر وهو مع ظهوره في نفسه مظهر لكل معنىً يحتاج إليه، و {متعت} بالخطاب من لسان الرسول المنزل عليه هذا الكتاب؛ لأنه يدعو انتهازاً للفرصة لعله يجاب بما يزيل الغصة يقول: يا رب! قد أقمتهم لمن يجهل العواقب في مقام من يرجى رجوعه فما قضيت بذلك بل متعت إلى آخره.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يُضرب السياق عن حديث إبراهيم، ويلتفت إلى القوم الحاضرين: (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحق ورسول مبين).. وكأنه بهذا الإضراب يقول: لندع حديث إبراهيم، فما لهم به صلة ولا مناسبة؛ ولننظر في شأن هؤلاء وهو لا يتصل بشأن إبراهيم..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
إضراب عن قوله: {لعلهم يرجعون}، وهو إضراب إبطال، أي لم يحصل ما رجاه إبراهيم من رجوع بعض عقبه إلى الكلمة التي أوصاهم برعيها. فإن أقدم أمة من عقبه لم يرجعوا إلى كلمته، وهؤلاء هم العرب الذين أشركوا وعبدوا الأصنام...
وتمتيع آبائهم تمهيد لتمتِيع هؤلاء، ولذلك كانت غاية التمتيع مجيءَ الرّسول فإن مجيئه لهؤلاء... فإنه لما جاء القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم انتهى التمتيع وأُخذوا بالعذاب تدريجاً إلى أن كان عذاب يوم بدر ويوم حنين، وهدى الله للإسلام من بقي يومَ فتح مكة وأيامَ الوفود...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
يتحدث كتاب الله عن عهد (الفترة) التي مرت بجزيرة العرب، دون أن يبعث فيها نبي أو رسول، وأن الله لم يؤاخذ المشركين خلال تلك الفترة بما ارتكبوه من ذنوب، وبما اعتقدوه من ضلالات، بل إنه- تفضلا منه وكرما- قد أمهلهم، و (متعهم وآباءهم)، في انتظار حلول الوقت الذي تقتضي الحكمة الإلهية أن تبرز فيه الرسالة المحمدية، وها هي تلك الرسالة قد حان موعدها لإخراج المشركين من الظلمات إلى النور...
قلنا: إن المنهج ينطمس وينصرف الناسُ عنه بمرور الزمن حتى تدعوَ الحاجةُ لنبي جديد يُعيد الناس إلى الجادَّة، لأن الحق سبحانه خلق في النفس البشرية مناعة طبيعية لأنه خليفة الله في أرضه، فهو الذي سيعمر هذه الأرض، فلا بدَّ أن يُوفر له أسباب الاستقامة والحركة الإيجابية التي يعمر بها الأرض.
لذلك نرى الإنسان السَّوي حينما يفعل المعصية حين غفلة منه عن منهج ربه يُسرع بالتوبة والندم، لأن الاستقامة وبذرة الإيمان في ذاته، فإذا أصيب المرْءُ في ذاته وفقد هذه المناعة تأتي المناعة من المجتمع، المجتمع الواعي المدرك لدوره الجماعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فقد المجتمع هو الآخر هذه المناعةَ لم يَبْق إلا أن تتدخَّل السماء برسول جديد ومنهج جديد.
إذن: حدث الانصرافُ عن المنهج بعد إبراهيم وإسماعيل، فكانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فسيدنا إبراهيم جعل كلمة التوحيد باقية في عقبه {لَعَلَّهُمْ} أي: ذريته من بعده {يَرْجِعُونَ} أي: إلى الله.
لكن لم يحدث، فقال سبحانه: {بَلْ مَتَّعْتُ هَـٰؤُلاَءِ} أي: كفار مكة {وَآبَآءَهُمْ} بالجاه والسلطان والنعيم والأمن {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] وجعل لهم منزلة وقداسة بين العرب لمكانتهم من البيت، وظلَّتْ لهم هذه المنزلة {حَتَّىٰ جَآءَهُمُ الْحَقُّ} أي: القرآن {وَرَسُولٌ مُّبِينٌ} أي: محمد صلى الله عليه وسلم و {مُّبِينٌ} يعني: يظهر الحقَّ على يديه وفي كل شيء فيه.
لكن هل آمنوا بهذا الحق، وصدَّقوا بهذا الرسول؟ لا
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تقول الآية مجيبة: (بل متعت هؤلاء وآباءهم حتى جاءهم الحقّ ورسول
مبين) فنحن لم نكتف بحكم العقل ببطلان الشرك والوثنيّة، ولا بحكم وجدانهم بالتوحيد، بل أمهلناهم لإتمام الحجّة عليهم حتّى يقوم هذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا النّبي العظيم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بهدايتهم...