التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{بَلۡ مَتَّعۡتُ هَـٰٓؤُلَآءِ وَءَابَآءَهُمۡ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلۡحَقُّ وَرَسُولٞ مُّبِينٞ} (29)

وقوله - سبحانه - : { بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } إضراب عن كلام محذوف يناسق إليه الكلام ، والمراد " بهؤلاء " أهل مكة المعاصرين للنبى - صلى الله عليه وسلم - وقوله : { مَتَّعْتُ } من التمتع بمعنى إعطائهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب والنعم المتعددة ، واشتغالهم بذلك عن طاعة الله - تعالى - وشكره .

والمعنى : اقتضت حكمتنا أن نجعل كلمة التوحيد باقية فى بعض ذرية إبراهيم لعل من بقى من هذه الذرية على الشرك أن يرجع إليها ، ولكنهم لم يرجعوا بل أصروا على كفرهم ، فلم أعالجهم بالعقوبة ، بل متعت هؤلاء المشركين المعاصرين لك - أيها الرسول الكريم - بأن أمددتهم بالنعم المتعددة هم وآباؤهم ، وبقيت تلك النعم فيهم : { حتى جَآءَهُمُ الحق } وهو دعوتك إياهم إلى إخلاص العبادة لنا ، وجاءهم { وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } هو أنت - أيها الرسول الكريم - فإن رسالتك واضحة المعالم ، بينة المقاصد ، ليس فيها شئ من الغموض الذى يحملها على الإِعراض عنها .

فالمقصود من الآية الكريمة ، بيان أن الكلمة الباقية فى عقب إبراهيم وهى كلمة التوحيد ، لم يتبعها جميع أفراد ذريته ، بل اتبعها قوم وكفر بها آخرون وأن هؤلاء الكافرين - وعلى راسهم كفار قريش - لم يعاجلهم الله - تعالى - بالعقوبة ، بل أعطاهم نعما متعددة ، فلم يشكروه - تعالى - عليها ، واستمروا على ذلك ، حتى جاءهم الحق ، فلم يؤمنوا به ، ولا بمن حمله إليهم وهو الرسل المبين - صلى الله عليه وسلم - .

ومن الآيات التى تدل على أن ذرية إبراهيم كان منها المؤمن ، وكان منها الكافر . قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }