{ وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ } أي : أنزلنا عليهما البركة ، التي هي النمو والزيادة في علمهما وعملهما وذريتهما ، فنشر اللّه من ذريتهما ثلاث أمم عظيمة : أمة العرب من ذرية إسماعيل ، وأمة بني إسرائيل ، وأمة الروم من ذرية إسحاق . { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ } أي : منهم الصالح والطالح ، والعادل والظالم الذي تبين ظلمه ، بكفره وشركه ، ولعل هذا من باب دفع الإيهام ، فإنه لما قال : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إسحاق } اقتضى ذلك البركة في ذريتهما ، وأن من تمام البركة ، أن تكون الذرية كلهم محسنين ، فأخبر اللّه تعالى أن منهم محسنا وظالما ، واللّه أعلم .
{ وباركنا عليه } على إبراهيم في أولاده . { وعلى إسحق } بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب ، أو أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا ، وقرئ " وبركنا " . { ومن ذريتهما محسن } في عمله أو إلى نفسه بالإيمان والطاعة . { وظالم لنفسه } بالكفر والمعاصي . { مبين } ظاهر ظلمه ، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في أعقابها لا يعود عليهما بنقيصة وعيب .
وبارك جعله ذا بركة والبركة زيادة الخير في مختلف وجوهه ، وقد تقدم تفسيرها عند قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً } في سورة [ آل عمران : 96 ] . وقوله : { وبركات عليك } في سورة [ هود : 48 ] .
و { على } للاستعلاء المجازي ، أي تمكُّن البركةِ من الإِحاطة بهما .
ولما ذكر ما أعطاهما نقل الكلام إلى ذريتهما فقال : { ومن ذُريتهما مُحسنٌ } ، أي عامل بالعمل الحسن ، { وظالِمٌ لنفسهِ } أي مشرك غير مستقيم للإِشارة إلى أن ذريتهما ليس جميعها كحالهما بل هم مختلفون ؛ فمن ذرية إبراهيم أنبياء وصالحون ومؤمنون ومن ذرية إسحاق مثلهم ، ومن ذرية إبراهيم من حادوا عن سنن أبيهم مثل مشركي العرب ، ومن ذرية إسحاق كذلك مثل من كفر من اليهود بالمسيح وبمحمد صلّى الله عليهما ، ونظيره قوله تعالى : { قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين } في سورة [ البقرة : 124 ] .
وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيّب لا يجري أمرهما على العِرق والعنصر فقد يلد البَرُّ الفاجرَ والفاجر البَّر ، وعلى أن فساد الأعقاب لا يُعدّ غضاضة على الآباء ، وأن مناط الفضل هو خصال الذات وما اكتسب المرء من الصالحات ، وأما كرامة الآباء فتكملة للكمال وباعث على الاتّسام بفضائل الخِلال ، فكان في هذه التكملة إبطال غرور المشركين بأنهم من ذرية إبراهيم ، وإنهّا مزية لكن لا يعادلها الدخول في الإِسلام وأنهم الأوْلى بالمسجد الحرام . قال أبو طالب في خطبة خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم « الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وجعلنا رجال حرمه وسَدنة بيته » فكان ذلك قبل الإِسلام وقال الله تعالى لهم بعد الإِسلام : { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن باللَّه واليوم الآخر وجاهد في سبيل اللَّه لا يستوون عند اللَّه } [ التوبة : 19 ] . وقال تعالى : { وهم يصدّون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } [ الأنفال : 34 ] وقال : { إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا } [ آل عمران : 68 ] .
وقد ضرب الله هذه القصة مثلاً لحال النبي صلى الله عليه وسلم في ثباته على إبطال الشرك وفيما لقي من المشركين وإيماءً إلى أنه يهاجر من أرض الشرك وأن الله يهديه في هجرته ويهَب له أمّة عظيمة كما وهب إبراهيم أتباعاً ، فقال : { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] .
وفي قوله تعالى : { ومن ذريتهما محسنٌ وظالمٌ لنفسه مبينٌ } مَثَل لحال النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه من أهل مكة ولحال المشركين من أهل مكة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وعلى إسحاق ومن ذريتهما} إبراهيم وإسحاق {محسن} مؤمن.
{وظالم لنفسه} يعني مشرك {مبين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إسحَاقَ" يقول تعالى ذكره: وباركنا على إبراهيم وعلى إسحاق.
"وَمِنْ ذُرّيّتِهِما مُحْسِنٌ "يعني بالمحسن: المؤمن المطيع لله، المحسن في طاعته إياه. "وَظالِمٌ لنَفْسِهِ مُبِينٌ" ويعني بالظالم لنفسه: الكافر بالله، الجالب على نفسه بكفره عذابَ الله وأليم عقابه، "مبين": يعني الذي قد أبان ظلمَه نفسَه بكفره بالله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
البركة هي اسم لكل خير لا يزال على الزيادة والنماء.
يحتمل أن يكون: {مُحسِن} إلى نفسه، أو محسن إلى الناس.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
البركة هاهنا: كثرة الولد. ويقال: البركة كثرة الأنبياء في أولادهما.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قرئ: «وبَرَّكْنا» أي: أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا.
{وظالم لّنَفْسِهِ} نظيره: {قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِي؟ قَالَ: لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] وفيه تنبيه على أن الخبيث والطيب لا يجري أمرهما على العرق والعنصر، فقد يلد البر الفاجر، والفاجر البر. وعلى أن الظلم في أعقابهما لم يعد عليهما بعيب ولا نقيصة، وأنّ المرء يعاب بسوء فعله ويعاتب على ما اجترحت يداه، لا على ما وجد من أصله أو فرعه.
الأول: أنه تعالى أخرج جميع أنبياء بني إسرائيل من صلب إسحاق.
والثاني: أنه أبقى الثناء الحسن على إبراهيم وإسحاق إلى يوم القيامة، لأن البركة عبارة عن الدوام والثبات.
وظالم لنفسه مبين: وفي ذلك تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن، لئلا تصير هذه الشبهة سببا لمفاخرة اليهود.
دخل تحت قوله: {محسن} الأنبياء والمؤمنين وتحت قوله: {ظالم} الكافر والفاسق.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أنزلنا عليهما البركة، التي هي النمو والزيادة في علمهما وعملهما وذريتهما، فنشر اللّه من ذريتهما ثلاث أمم عظيمة: أمة العرب من ذرية إسماعيل، وأمة بني إسرائيل، وأمة الروم من ذرية إسحاق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
تتلاحق من بعدهما ذريتهما، ولكن وراثة هذه الذرية لهما ليست وراثة الدم والنسب إنما هي وراثة الملة والمنهج: فمن اتبع فهو محسن. ومن انحرف فهو ظالم لا ينفعه نسب قريب أو بعيد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
البركة زيادة الخير في مختلف وجوهه و {على} للاستعلاء المجازي، أي تمكُّن البركةِ من الإِحاطة بهما.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(بركة) مشتقّة من (برك) على وزن (درك) وتعني صدر البعير، وعندما يضع صدره على الأرض يقال (برك البعير) وتدريجيّاً أعطت هذه الكلمة معنى الثبات وبقاء شيء ما، ولهذا يطلق على المكان الذي فيه ماء ثابت ومستقر (بركة) في حين يقال لمّا كان خيره باقياً وثابتاً مبارك، ومن هنا يتّضح أنّ الآية مورد بحثنا تشير إلى ثبات ودوام النعم الإلهيّة على إبراهيم وإسحاق وعلى اُسرتهم.