وهذا سؤال من إبراهيم ، عليه السلام ، أن يؤتيه ربه حُكْما .
قال ابن عباس : وهو العلم . وقال عكرمة : هو اللب . وقال مجاهد : هو القرآن . وقال السدي : هو النبوة . وقوله : { وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } أي : اجعلني مع{[21758]} الصالحين في الدنيا والآخرة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار : " [ اللهم الرفيق الأعلى " قالها ثلاثا{[21759]} . وفي الحديث في الدعاء ]{[21760]} : اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مبدلين " {[21761]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { رَبّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ * وَاجْعَل لّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الاَخِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن مسألة خليله إبراهيم إياه رَبّ هَبْ لي حُكْما يقول : ربّ هب لي نبوّة وألْحِقْنِي بالصّالِحِينَ يقول : واجعلني رسولاً إلى خلقك ، حتى تلحقني بذلك بِعداد من أرسلته من رسلك إلى خلقك ، واتمنته على وحيك ، واصطفيته لنفسك . وقوله : وَاجْعَلْ لي لِسانَ صِدْقٍ فِي الاَخِرِينَ يقول : واجعل لي في الناس ذكرا جميلاً ، وثناء حسنا ، باقيا فيمن يجيء من القرون بعدي . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن عكرمة ، قوله وَاجْعَلْ لي لِسانَ صِدْقٍ فِي الاَخِرِينَ ، قوله وآتَيْناهُ أجْرَهُ فِي الدّنْيا . قال : إن الله فضله بالخُلّة حين اتخذه خليلاً ، فسأل الله فقال : وَاجْعَلْ لي لِسانَ صِدْقٍ فِي الاَخِرِينَ حتى لا تكذّبني الأمم ، فأعطاه الله ذلك ، فإن اليهود آمنت بموسى ، وكفرت بعيسى ، وإن النصارى آمنت بعيسى ، وكفرت بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكلهم يتولى إبراهيم قالت اليهود : هو خليل الله وهو منا ، فقطع الله ولايتهم منه بعد ما أقرّوا له بالنبوّة وآمنوا به ، فقال : ما كانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيّا وَلا نَصْرَانِيّا ، وَلَكِنْ كانَ حَنِيفا مُسْلِمَا وَما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ ، ثم ألحق ولايته بكم فقال : إنّ أوْلَى النّاسِ بإبْرَاهيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ ، وَهَذَا النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا وَالله وَلِيّ المُؤْمِنِينَ فهذا أجره الذي عجل له ، وهي الحسنة ، إذ يقول : وآتَيْناهُ في الدّنْيا حَسَنَةً وهو اللسان الصدق الذي سأل ربه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله وَاجْعَلْ لي لِسانَ صِدْقٍ فِي الاَخِرِينَ قال : اللسان الصّدْق : الذكْر الصدق ، والثناء الصالح ، والذكر الصالح في الاَخرين من الناس ، من الأمم .
لما كان آخر مقاله في الدعوة إلى الدين الحق متضمناً دعَاء بطلب المغفرة تخلص منه إلى الدعاء بما فيه جمع الكمال النفساني بالرسالة وتبليغ دعوة الخلق إلى الله فإن الحجة التي قام بها في قومه بوحي من الله كما قال تعالى : { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } [ الأنعام : 83 ] فكان حينئذ في حال قرب من الله . وجهر بذلك في ذلك الجمع لأنه عقب الانتهاء من أقدس واجب وهو الدعوة إلى الدين ، فهو ابتهال أرجى للقبول كالدعاء عقب الصلوات وعند إفطار الصائم ودعاء يوم عرفة والدعاء عند الزحف ، وكلها فراغ من عبادات . ونظير ذلك دعاؤه عند الانتهاء من بناء أساس الكعبة المحكي في قوله تعالى : { وإذ يَرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل } إلى قوله : { ربّنا واجعلنا مسلمين لك } إلى { إنك أنت العزيز الحكيم } [ البقرة : 127 129 ] وابتدأ بنفسه في أعمال هذا الدين كما قال تعالى حكاية عن موسى عليه السلام : { وأنا أول المؤمنين } [ الأعراف : 143 ] ، وكما أمر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال : { وأمرتُ لأن أكون أول المسلمين } [ الزمر : 12 ] .
وللأوليات في الفضائل مرتبة مرغوبة ، قال سعد بن أبي وقاص « أنا أول من رمَى بسهم في سبيل الله » . وبضد ذلك أوليات المساوىء ففي الحديث : " ما من نفس تُقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفلٌ من دمها ذلك لأنه أول من سَنّ القتل "
وقد قابل إبراهيم في دعائه النعم الخمس التي أنعم الله بها عليه المذكورة في قوله : { الذي خلقني فهو يهدين } إلى قوله : { يوم الدين } [ الشعراء : 78 82 ] الراجعة إلى مواهب حسية بسؤال خمس نعم راجعة إلى الكمال النفساني كما أومأ إليه قوله : { إلا من أتى الله بقلب سليم } وأقحم بين طِلْباته سؤاله المغفرة لأبيه لأن ذلك داخل في قوله : { ولا تخزني يوم يبعثون } .
فابتداء دعائه بأن يعطى حُكْماً . والحكم : هو الحكمة والنبوءة ، قال تعالى عن يوسف : { آتيناه حكماً وعلماً } [ القصص : 14 ] أي النبوءة ، وقد كان إبراهيم حين دعا نبيئاً فلذلك كان السؤال طلباً للازدياد لأن مراتب الكمال لا حدّ لها بأن يُعطى الرسالة مع النبوءة أو يعطى شريعة مع الرسالة ، أو سأل الدوام على ذلك .
ثم ارتقى فطلب إلحاقه بالصالحين . ولفظ الصالحين يعم جميع الصالحين من الأنبياء والمرسلين ، فيكون قد سأل بلوغ درجات الرسل أولي العزم نوح وهود وصالح والشهداء والصالحين فجعل الصالحين آخراً لأنه يعم ، فكان تذييلاً .
ثم سأل بقاء ذكر له حسن في الأمم والأجيال الآتية من بعده . وهذا يتضمن سؤال الدوام والختام على الكمال وطلب نشر الثناء عليه وهذا ما تتغذى به الروح من بعد موته لأن الثناء عليه يستعدي دعاء الناس له والصلاة عليه والتسليم جزاء على ما عرفوه من زكاء نفسه .
وقد جعل الله في ذريته أنبياء ورسلاً يذكرونه وتذكره الأمم التابعة لهم ويُخلد ذكره في الكُتب . قال ابن العربي : « قال مالك : لا بأس أن يحب الرجل أن يُثنى عليه صالحاً ويُرى في عمل الصالحين إذا قصد به وجه الله وهو الثناء الصالح » ، وقد قال الله تعالى : { وألقيت عليك محبة مني } [ طه : 39 ] ، وهي رواية أشهب عن مالك رحمه الله . وقد تقدم الكلام على هذا مشبعاً عند قوله تعالى : { والذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً } في سورة الفرقان ( 74 ) .