قوله تعالى : { فعقروها فقال } ، لهم صالح { تمتعوا } عيشوا ، { في داركم } ، أي : في دياركم ، { ثلاثة أيام } ، ثم تهلكون ، { ذلك وعد غير مكذوب } ، أي : غير كذب . روي أنه قال لهم : يأتيكم العذاب بعد ثلاثة أيام فتصبحون في اليوم الأول ووجوهكم مصفرة ، وفي اليوم الثاني محمرة ، وفي اليوم الثالث مسودة ، فكان كما قال ، وأتاهم العذاب اليوم الرابع .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } .
يقول تعالى ذكره : فعقرت ثمود ناقة الله . وفي الكلام محذوف قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر عليه ، وهو : فكذّبوه فعقروها . فقال لهم صالح : تَمَتّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ يقول : استمتعوا في دار الدنيا بحياتكم ثلاثة أيام . ذلكَ وَعْدٌ غيرُ مَكْذُوبٍ يقول : هذا الأجل الذي أجّلتكم وعد من الله ، وعدكم بانقضائه الهلاك ، ونزول العذاب بكم غير مكذوب ، يقول : لم يكذبكم فيه من أعلمكم ذلك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ذلكَ وَعْدٌ غيرُ مَكْذُوبٍ وذُكِر لنا أن صالحا حينَ أخبرهم أن العذاب أتاهم لبسوا الأنطاع والأكسية ، وقيل لهم : إن آية ذلك أن تصفرّ ألوانكم أوّل يوم ، تم تحمرّ في اليوم الثاني ، ثم تسودّ في اليوم الثالث وذُكر لنا أنهم لما عقروا الناقة ندموا وقالوا : عليكم الفصيلَ فصعد الفصيل القارة والقارة الجبل حتى إذا كان اليوم الثالث ، استقبل القبلة وقال : يا ربّ أمي يا ربّ أمي ثلاثا . قال : فأرسلت الصيحة عند ذلك .
وكان ابن عباس يقول : لو صعدتم القارة لرأيتم عظام الفصيل . وكانت منازل ثمود بحجرْ بين الشام والمدينة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : تَمَتّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ قال : بقية آجالهم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة أن ابن عباس قال : لو صعدتم على القارة لرأيتم عظام الفصيل .
{ فعقروها فقال تمتّعوا في داركم } عيشوا في منازلكم أو في داركم الدنيا . { ثلاثة أيام } الأربعاء والخميس والجمعة ثم تهلكون . { ذلك وعد غير مكذوب } أي غير مكذوب فيه فاتسع فيه بإجرائه مجرى المفعول به كقوله :
ويوم شهدناه سليما وعامرا *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أو غير مكذوب على المجاز ، وكأن الواعد قال له أفي بك فإن وفى به صدقه وإلا كذبه ، أو وعد غير كذب على أنه مصدر كالمجلود والمعقول .
وأضاف العقر إلى جميعهم لأن العاقر كان منهم وكان عن رضى منهم وتمالؤ ، وعاقرها قدار ، وروي في خبر ذلك أن صالحاً أوحى الله إليه أن قومك سيعقرون الناقة وينزل بهم العذاب عند ذلك ، فأخبرهم بذلك فقالوا : عياذاً بالله أن نفعل ذلك ، فقال : إن لم تفعلوا أنتم ذلك أوشك أن يولد فيكم من يفعله ، وقال لهم : صفة عاقرها أحمر أزرق أشقر ، فجعلوا الشرط مع القوابل وأمروهم بتفقد الأطفال ، فمن كان على هذه الصفة قتل ، وكان في المدينة شيخان شريفان عزيزان ، وكان لهذا ابن ولهذا بنت ، فتصاهرا فولد بين الزوجين قدار ، على الصفة المذكورة ، فهم الشرط بقتله ، فمنع منه جداه حتى كبر ، فكان الذي عقرها بالسيف في عراقيبها ، وقيل : بالسهم في ضرعها وهرب فصيلها عن ذلك ، فصعد على جبل يقال له القارة ، فرغاً ثلاثاً ، فقال صالح : هذا ميعاد ثلاثة أيام للعذاب ، وأمرهم قبل رغاء الفصيل أن يطلبوه عسى أن يصلوا إليه فيندفع عنه العذاب به ، فراموا الصعود إليه في الجبل ، فارتفع الجبل في السماء حتى ما تناله الطير ، وحينئذ رغا الفصيل .
وقوله { في داركم } هي جمع دارة كما تقول ساحة وساح وسوح ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت : [ الوافر ]
له داع بمكةَ مشمعلّ*** وآخر عند دارته ينادي{[1]}
ويمكن أن يسمى جميع مسكن الحي داراً ، و «الثلاثة الأيام » تعجيز قاس الناس عليه الإعذار إلى المحكوم عليه ونحوه .
قال القاضي أبو محمد : وذلك عندي مفترق لأنها في المحكوم عليه والغارم في الشفعة ونحوه توسعة ، وهي هنا توقيف على الخزي والتعذيب ، وروى قتادة عن ابن عباس أنه قال : لو صعدتم على القارة لرأيتم عظام الفصيل .
التمتع : الانتفاع بالمتاع . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ومتاعٌ إلى حينٍ } في سورة [ الأعراف : 24 ] .
والدّار : البلد ، وتقدّم في قوله تعالى : { فأصبحوا في دارهم جاثمين } في سورة [ الأعراف : 78 ] ، وذلك التأجيل استقصاءٌ لهم في الدعوة إلى الحقّ .
والمكذوب : الذي يُخبر به الكاذب . يقال : كذَب الخبرَ ، إذا اختلقه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فعقروها}... {فقال} لهم صالح: {تمتعوا في داركم} يعني محلتكم في الدنيا، {ثلاثة أيام ذلك} العذاب {وعد} من الله {غير مكذوب}: ليس فيه كذب بأن العذاب نازل بهم بعد ثلاثة أيام...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمود ناقة الله، وفي الكلام محذوف قد ترك ذكره استغناء بدلالة الظاهر عليه، وهو: فكذّبوه فعقروها فقال لهم صالح:"تَمَتّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ" يقول: استمتعوا في دار الدنيا بحياتكم ثلاثة أيام.
"ذلكَ وَعْدٌ غيرُ مَكْذُوبٍ "يقول: هذا الأجل الذي أجّلتكم وعد من الله، وعدكم بانقضائه الهلاك، ونزول العذاب بكم "غير مكذوب"، يقول: لم يكذبكم فيه من أعلمكم ذلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: (ذلك وعد) من الله (غير مكذوب) ليس فيه كذب. وكان عذابهم إنما نزل على إثر سؤال الآية؛ سألوا ذلك، فلما أن جاءهم بها كذبوها، فنزل بهم العذاب، وهكذا السنة في الأمم السالفة؛ أنهم إذا سألوا الآية فجاءتهم فلم يؤمنوا بها، نزل بهم العذاب، وهو قوله: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب به الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها) الآية [الإسراء: 59] والله أعلم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(فعقروها) العقر ها هنا: جراحة تؤدي إلى الهلاك...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{تَمَتَّعُواْ} استمتعوا بالعيش {فِي دَارِكُمْ} في بلدكم. وتسمى البلاد الديار؛ لأنه يدار فيه أي يتصرف... وقيل: في دار الدنيا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أضاف العقر إلى جميعهم لأن العاقر كان منهم وكان عن رضى منهم وتمالؤوا، وعاقرها قدار...
التمتع: التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم أشار إلى قرب مخالفتهم لأمره فيها بقوله مسبباً عن أوامره ونواهيه ومعقباً: {فعقروها} أي الناقة {فقال} أي عند بلوغه الخبر {تمتعوا} أي أنتم تعيشون {في داركم} أي داركم هذه، وهي بلدة الحجر {ثلاثة أيام} أي بغير زيادة عليها، فانظروا ماذا يغني عنكم تلذذكم وترفهكم وإن اجتهدتم فيه. ولما كان كأنه قيل: هل في هذا الوعيد مثنوية، قال مجيباً: {ذلك} أي الوعد العالي الرتبة في الصدق والغضب {وعد غير مكذوب} أي فيه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
دل عقرهم للناقة، أي ضربهم لها بالسيف في قوائمها وقتلها على هذا النحو. دل على فساد قلوبهم واستهتارهم. والسياق هنا لا يطيل بين إعطائهم الناقة وعقرهم إياها، لأنها لم تحدث في نفوسهم تجاه الدعوة تغييرا يذكر. ثم ليتابع السياق عجلة العذاب. فهو يعبر هنا بفاء التعقيب في كل الخطوات: (فعقروها. فقال: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام).. فهي آخر ما بقى لكم من متاع هذه الدنيا ومن أيام هذه الحياة: (ذلك وعد غير مكذوب).. فهو وعد صادق لن يحيد...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وذلك التأجيل استقصاءٌ لهم في الدعوة إلى الحقّ. والمكذوب: الذي يُخبر به الكاذب. يقال: كذَب الخبرَ، إذا اختلقه.
لقائل أن يقول: ولم الإمهال بثلاثة أيام؟ ونقول: إن العذاب إذا جاء فالألم الحسي ينقطع من المعذب، ويشاء الله تعالى أن يعيشوا في ذلك الألم طوال تلك المدة حتى يتألموا حسيا، وكل يوم يمر عليهم تزداد آلامهم من قرب الوعيد الذي قال فيه الله تعالى: {وعد غير مكذوب}: الحق سبحانه هو الذي يعد، وهو القادر على إنفاذ الوعد، ولا تقوم قوة أمامه؛ لذلك فهو وعد صادق غير مكذوب...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الرضى بالعمل يساوي المشاركة به {فَعَقَرُوهَا} فكمن لها شخص منهم، فضربها وقتلها، بعد الاتفاق مع القوم، فحمّلهم الله مسؤولية ذلك جميعاً، لأن عامل الرضى يتساوى في النتيجة عند الله، مع عامل المشاركة، {فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} لقد تحركت المسألة في خطّ القرار الحاسم الذي حدّد للعذاب موعداً، بعد ثلاثة أيام، لأن العذاب سنّة الله في الأمم السالفة، عندما ينزل آية على قوم فيجحدونها...