وأما قوله : { إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } ، فإنه يعني بذلك : أن الشيطان ليست له حجة على الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا بما أمر الله به ، وانتهوا عما نهاهم الله عنه . { وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } ، يقول : وعلى ربهم يتوكلون فيما نابهم من مهمات أمورهم . { إنّمَا سُلْطَانُه عَلىَ الّذِينَ يتَولّونَهُ } ، يقول : إنما حجته على الذين يعبدونه ، { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ، يقول : والذين هم بالله مشركون .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { إنّمَا سُلْطانُهُ } ، قال : حجته .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : إ{ نّمَا سُلْطانُهُ على الّذِينَ يتَوَلّوْنَهُ } ، قال : يطيعونه .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله لم يسلط فيه الشيطان على المؤمن . فقال بعضهم بما :
حُدثت عن واقد بن سليمان ، عن سفيان ، في قوله : { إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } قال : ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر .
وقال آخرون : هو الاستعاذة ، فإنه إذا استعاذ بالله ، منع منه ولم يسلط عليه . واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الله تعالى : { وإمّا يَنْزَغَنّكَ منَ الشّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللّهِ إنّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، وقد ذكرنا الرواية بذلك في سورة الحِجْر .
حدثني به المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، في قوله : { إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } ، إلى قوله : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } يقال : إن عدوّ الله إبليس قال : { لاأغْوِيَنّهُمْ أجَمعينَ إلاّ عبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ } ، فهؤلاء الذين لم يجعل للشيطان عليهم سبيل ، وإنما سلطانه على قوم اتخذوه وليّا وأشركوه في أعمالهم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } ، يقول : السلطان على من تولى الشيطان وعمل بمعصية الله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّمَا سُلْطانُهُ عَلى الّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ } يقول : الذين يطيعونه ويعبدونه .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا فاستعاذوا بالله منه ، بما ندب الله تعالى ذكره من الاستعاذة ، { وَعَلى رَبهِمْ يَتَوَكّلُونَ } ، على ما عرض لهم من خطراته ووساوسه .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية ؛ لأن الله تعالى ذكره أتبع هذا القول : { فإذَا قَرأتَ القُرآنَ فاسْتَعِذْ باللّهِ مِنَ الشّيْطانِ الرّجِيمِ } ، وقال في موضع آخر : { وَإمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللّهِ إنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، فكان بينا بذلك أنه إنما ندب عباده إلى الاستعاذة منه في هذه الأحوال ليُعيذهم من سلطانه .
وأما قوله : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم فيه بما قلنا إن معناه : والذين هم بالله مشركون . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } قال : يعدلون بربّ العالمين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ، قال : يعدلون بالله .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ، عدلوا إبليس بربهم ، فإنهم بالله مشركون .
وقال آخرون : معنى ذلك : والذين هم به مشركون ، أشركوا الشيطان في أعمالهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ، أشركوه في أعمالهم .
والقول الأوّل ، أعني قول مجاهد ، أولى القولين في ذلك بالصواب ، وذلك أن الذين يتولون الشيطان إنما يشركونه بالله في عبادتهم وذبائحهم ومطاعمهم ومشاربهم ، لا أنهم يشركون بالشيطان . ولو كان معنى الكلام ما قاله الربيع ، لكان التنزيل : الذين هم مشركوه ، ولم يكن في الكلام «به » ، فكان يكون لو كان التنزيل كذلك : والذين هم مشركوه في أعمالهم ، إلا أن يوجه موجه معنى الكلام إلى أن القوم كانوا يدينون بألوهة الشيطان ويشركون الله به في عبادتهم إياه ، فيصحّ حينئذ معنى الكلام ، ويخرج عما جاء التنزيل به في سائر القرآن ، وذلك أن الله تعالى وصف المشركين في سائر سور القرآن أنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به عليهم سلطانا ، وقال في كل موضع تقدّم إليهم بالزجر عن ذلك : لا تشركوا بالله شيئا ، ولم نجد في شيء من التنزيل : لا تشركوا الله بشيء ، ولا في شيء من القرآن خبرا من الله عنهم أنهم أشركوا الله بشيء فيجوز لنا توجيه معنى قوله : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ } ، إلى والذين هم بالشيطان مشركو الله . فبين إذا إذ كان ذلك كذلك أن الهاء في قوله : { وَالّذِينَ هُمْ بِهِ } ، عائدة على «الربّ » في قوله : { وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ } .