130- يا أيها الذين آمنوا لا تأخذوا في الدَّيْنِ إلا رءوس أموالكم ، فلا تزيدوا عليها زيادة تجيء سنة بعد أخرى فتتضاعف وخافوا اللَّه ، فلا تأكلوا أموال الناس بالباطل ، فإنكم تفلحون وتفوزون باجتنابكم الربا قليله وكثيره{[35]} .
قوله تعالى : { ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم . يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } . أراد به ما كانوا يفعلونه عند حلول أجل الدين من زيادة المال وتأخير الطلب .
قوله تعالى : { واتقوا الله } . في أمر الربا فلا تأكلوه .
قوله تعالى : { لعلكم تفلحون } . ثم خوفهم ، فقال : { واتقوا النار التي أعدت للكافرين وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }
تقدم في مقدمة هذا التفسير أن العبد ينبغي له مراعاة الأوامر والنواهي في نفسه وفي غيره ، وأن الله تعالى إذا أمره بأمر وجب عليه -أولا- أن يعرف حده ، وما هو الذي أمر به ليتمكن بذلك من امتثاله ، فإذا عرف ذلك اجتهد ، واستعان بالله على امتثاله في نفسه وفي غيره ، بحسب قدرته وإمكانه ، وكذلك إذا نهي عن أمر عرف حده ، وما يدخل فيه وما لا يدخل ، ثم اجتهد واستعان بربه في تركه ، وأن هذا ينبغي مراعاته في جميع الأوامر الإلهية والنواهي ، وهذه الآيات الكريمات قد اشتملت عن أوامر وخصال من خصال الخير ، أمر الله [ بها ] وحث على فعلها ، وأخبر عن جزاء أهلها ، وعلى نواهي حث على تركها .
ولعل الحكمة -والله أعلم- في إدخال هذه الآيات أثناء قصة " أحد " أنه قد تقدم أن الله تعالى وعد عباده المؤمنين ، أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم على أعدائهم ، وخذل الأعداء عنهم ، كما في قوله تعالى : { وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا }
ثم قال : { بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم } الآيات .
فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى ، التي يحصل بها النصر والفلاح والسعادة ، فذكر الله في هذه الآيات أهم خصال التقوى التي إذا قام العبد بها فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى ، ويدل على ما قلنا أن الله ذكر لفظ " التقوى " في هذه الآيات ثلاث مرات : مرة مطلقة وهي قوله : { أعدت للمتقين } ومرتين مقيدتين ، فقال : { واتقوا الله } { واتقوا النار }
فقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } كل ما في القرآن من قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا } افعلوا كذا ، أو اتركوا كذا ، يدل على أن الإيمان هو السبب الداعي والموجب لامتثال ذلك الأمر ، واجتناب ذلك النهي ؛ لأن الإيمان هو التصديق الكامل بما يجب التصديق به ، المستلزم لأعمال الجوارح ، فنهاهم عن أكل الربا أضعافا مضاعفة ، وذلك هو ما اعتاده أهل الجاهلية ، ومن لا يبالي بالأوامر الشرعية من أنه إذا حل الدين ، على المعسر ولم يحصل منه شيء ، قالوا له : إما أن تقضي ما عليك من الدين ، وإما أن نزيد في المدة ، ويزيد ما في ذمتك ، فيضطر الفقير ويستدفع غريمه ويلتزم ذلك ، اغتناما لراحته الحاضرة ، ، فيزداد -بذلك- ما في ذمته أضعافا مضاعفة ، من غير نفع وانتفاع .
ففي قوله : { أضعافًا مضاعفة } تنبيه على شدة شناعته بكثرته ، وتنبيه لحكمة تحريمه ، وأن تحريم الربا حكمته أن الله منع منه لما فيه من الظلم .
وذلك أن الله أوجب إنظار المعسر ، وبقاء ما في ذمته من غير زيادة ، فإلزامه بما فوق ذلك ظلم متضاعف ، فيتعين على المؤمن المتقي تركه وعدم قربانه ، لأن تركه من موجبات التقوى .
والفلاح متوقف على التقوى ، فلهذا قال : { واتقوا الله لعلكم تفلحون
وقبل أن يدخل السياق في صميم الاستعراض للمعركة - معركة أحد - والتعقيبات على وقائعها وأحداثها . . تجيء التوجيهات المتعلقة بالمعركة الكبرى ، التي المعنا في مقدمة الحديث إليها . المعركة في أعماق النفس وفي محيط الحياة . . يجيء الحديث عن الربا والمعاملات الربوية وعن تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله . وعن الإنفاق في السراء والضراء ، والنظام التعاوني الكريم المقابل للنظام الربوي الملعون . وعن كظم الغيظ والعفو عن الناس وإشاعة الحسنى في الجماعة . وعن الاستغفار من الذنب والرجوع إلى الله وعدم الإصرار على الخطيئة :
( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ، واتقوا الله لعلكم تفلحون . واتقوا النار التي أعدت للكافرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون . وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين : الذين ينفقون في السراء والضراء ، والكاظمين الغيظ ، والعافين عن الناس . والله يحب المحسنين . والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم - ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ - ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها . ونعم أجر العاملين ) . .
تجيء هذه التوجيهات كلها قبل الدخول في سياق المعركة الحربية ؛ لتشير إلى خاصية من خواص هذه العقيدة :
الوحدة والشمول في مواجهة هذه العقيدة للكينونة البشرية ونشاطها كله ؛ ورده كله إلى محور واحد : محور العبادة لله والعبودية له ، والتوجه إليه بالأمر كله . والوحدة والشمول في منهج الله وهيمنته على الكينونة البشرية في كل حال من أحوالها ، وفي كل شأن من شؤونها ، وفي كل جانب من جوانب نشاطها . ثم تشير تلك التوجيهات بتجمعها هذا إلى الترابط بين كل الوان النشاط الإنساني ؛ وتأثير هذا الترابط في النتائج الأخيرة لسعي الإنسان كله ، كلما أسلفنا .
والمنهج الإسلامي يأخذ النفس من أقطارها ، وينظم حياة الجماعة جملة لا تفاريق . ومن ثم هذا الجمع بين الإعداد والاستعداد للمعركة الحربية ؛ وبين تطهير النفوس ونظافة القلوب ، والسيطرة على الأهواء والشهوات ، وإشاعة الود والسماحة في الجماعة . . فكلها قريب من قريب . . وحين نستعرض بالتفصيل كل سمة من هذه السمات ، وكل توجيه من هذه التوجيهات ، يتبين لنا ارتباطها الوثيق بحياة الجماعة المسلمة ، وبكل مقدراتها في ميدان المعركة وفي سائر ميادين الحياة !
( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ، واتقوا الله لعلكم تفلحون . واتقوا النار التي أعدت للكافرين . وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون ) . .
ولقد سبق الحديث عن الربا والنظام الربوي بالتفصيل في الجزء الثالث من هذه الظلال فلا نكرر الحديث عنه هنا . . ولكن نقف عند الأضعاف المضاعفة . فإن قوما يريدون في هذا الزمان أن يتواروا خلف هذا النص ، ويتداروا به ، ليقولوا : إن المحرم هو الأضعاف المضاعفة . أما الأربعة في المائة والخمسة في المائة والسبعة والتسعة . . فليست أضعافا مضاعفة . وليست داخلة في نطاق التحريم !
ونبدأ فنحسم القول بأن الأضعاف المضاعفة وصف لواقع ، وليست شرطا يتعلق به الحكم . والنص الذي في سورة البقرة قاطع في حرمة أصل الربا - بلا تحديد ولا تقييد : ( وذروا ما بقي من الربا ) . . أيا كان !
فإذا انتهينا من تقرير المبدأ فرغنا لهذا الوصف ، لنقول : إنه في الحقيقة ليس وصفا تاريخيا فقط للعمليات الربوية التي كانت واقعة في الجزيرة ، والتي قصد إليها النهي هنا بالذات . إنما هو وصف ملازم للنظام الربوي المقيت ، أيا كان سعر الفائدة .
إن النظام الربوي معناه إقامة دورة المال كلها على هذه القاعدة . ومعنى هذا أن العمليات الربوية ليست عمليات مفردة ولا بسيطة . فهي عمليات متكررة من ناحية ، ومركبة من ناحية أخرى . فهي تنشىء مع الزمن والتكرار والتركيب أضعافا مضاعفة بلا جدال .
إن النظام الربوي يحقق بطبيعته دائما هذا الوصف . فليس هو مقصورا على العمليات التي كانت متبعة في جزيرة العرب . إنما هو وصف ملازم للنظام في كل زمان .
ومن شأن هذا النظام أن يفسد الحياة النفسية والخلقية - كما فصلنا ذلك في الجزء الثالث - كما أن من شأنه أن يفسد الحياة الاقتصادية والسياسية - كما فصلنا ذلك أيضا - ومن ثم تتبين علاقته بحياة الأمة كلها ، وتأثيره في مصائرها جميعا .
والإسلام - وهو ينشىء الأمة المسلمة - كان يريد لها نظافة الحياة النفسية والخلقية ، كما كان يريد لها سلامة الحياة الاقتصادية والسياسية . وأثر هذا وذاك في نتائج المعارك التي تخوضها الأمة معروف . فالنهي عن أكل الربا في سياق التعقيب على المعركة الحربية أمر يبدو إذن مفهوما في هذا المنهج الشامل البصير . .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } لا تزيدوا زيادات مكررة ، ولعل التخصيص بحسب الواقع . إذ كان الرجل منهم يربي إلى أجل ثم يزيد فيه زيادة أخرى حتى يستغرق بالشيء الطفيف مال المديون . وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب " مضعفة " . { واتقوا الله } فيما نهيتم عنه . { لعلكم تفلحون } راجين الفلاح .
لولا أنّ الكلام على يوم أحُد لم يكمل ، إذ هو سيعاد عند قوله تعالى : { قد خَلت من قبلِكُم سنن } إلى قوله : { يستبشرون بنعمة من الله . . . } [ آل عمران : 171 ] الآية لقلنا إنّ قوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا } اقتضاب تشريع ، ولكنّه متعيّن لأنْ نعتبره استطراداً في خلال الحديث عن يوم أحُد ، ثمّ لم يظهر وجه المناسبة في وقوعه في هذا الأثناء . قال ابن عطية : ولا أحفظ سبباً في ذلك مروياً . وقال الفخر : من النّاس من قال : لمّا أرشد الله المؤمنين إلى الأصلح لهم في أمر الدين والجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنَّهي فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا } فلا تعلّق لها بما قبلها .
وقال القفّال : لمّا أنفق المشركون على جيوشهم أموالاً جمعوها من الربا ، خيف أن يدعُو ذلك المسلمين إلى الإقدام على الرّبا . وهذه مناسبة مستبعدة . وقال ابن عرفة : لمّا ذكر الله وعيد الكفار عقّبه ببيان أن الوعيد لا يخصّهم بل يتناول العصاة ، وذكر أحد صور العصيان وهي أكل الربا . وهو في ضعف ما قبله ، وعندي بادىء ذي بدء أن لا حاجة إلى اطّراد المناسبة ، فإن مدّة نزول السورة قابلة ، لأن تحدث في خلالها حوادث ينزل فيها قرآن فيكون من جملة تلك السورة ، كما بيّناه في المقدّمة الثَّامنة ، فتكون هاته الآية نزلت عقب ما نزل قبلها فكتبت هنا ولا تكون بَينهما مناسبة إذ هو ملحق إلحاقاً بالكلام .
ويتّجه أن يسأل سائل عن وجه إعادة النّهي عن الربا في هذه السورة بعد ما سبق من آيات سورة البقرة بما هو أوفى ممَّا في هذه السورة ، فالجواب : أنّ الظاهر أنّ هذه الآية نزلت قبل نزول آية سورة البقرة فكانت هذه تمهيداً لتلك ، ولم يكن النّهي فيها بالغاً ما في سورة البقرة وقد روي أن آية البقرة نزلت بعد أن حَرّم الله الربا وأن ثقيفاً قالوا : كيف ننهى عن الربا ، وهومثل البيع ، ويكون وصف الربا ب { أضعافاً مضاعفة } نهياً عن الربا الفاحش وسَكت عمّا دون ذلك ممّا لا يبلغ مبلغ الأضعاف ، ثمّ نزلت الآية الَّتي في سورة البقرة ويحتمل أن يكون بعض المسلمين داين بعضاً بالمراباة عقب غزوة أحُد فنزل تحريم الرّبا في مدّة نزول قصّة تلك الغزوة . وتقدّم الكلام على معنى أكل الرّبا ، وعلى معنى الربا ، ووجه تحريمه ، في سورة البقرة .
وقوله : { أضعافاً مضاعفة } حال من { الرّبا } والأضعاف جمع ضعف بكسر الضّاد وهو معادل الشيء في المقدار إذا كان الشيء ومماثله متلازمين ، لا تقول : عندي ضعف درهمك ، إذ ليس الأصل عندك ، بل يحسن أن تقول : عندي درهمان ، وإنَّما تقول : عندي درهم وضعفه ، إذا كان أصل الدرهم عندك ، وتقول : لك درهم وضِعفه ، إذا فعلت كذا .
والضعف يطلق على الواحد إذا كان غير معرّف بأل نحو ضِعفُه ، فإذا أريد الجمع جيء به بصيغة الجَمع كما هنا ، وإذا عُرف الضعف بأل صحّ اعتبار العهد واعتبارالجنس ، كقوله تعالى : { فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا } [ سبأ : 37 ] فإن الجزاء أضعاف ، كما جاء في الحديث إلى سبعمائة ضعف .
وقوله : { مضاعفة } صفة للأضعاف أي هي أضعاف يدخلها التَّضعيف ، وذلك أنّهم كانوا إذا دَاينوا أحداً إلى أجل داينوه بزيادة ، ومتى أعسر عند الأجل أو رام التأخير زاد مثل تلك الزيادة ، فيصير الضِعف ضعفاً ، ويزيد ، وهكذا ، فيصدق بصورة أن يجعلوا الدّين مضاعفاً بمثله إلى الأجل ، وإذا ازداد أجلاً ثانياً زاد مثل جميع ذلك ، فالأضعاف من أوّل التداين للأجل الأوّل ، ومضاعفتها في الآجال الموالية ، ويصدُق بأن يداينوا بمراباة دون مقدار الدّين ثُمّ تزيد بزيادة الآجال ، حتَّى يصير الدّين أضعافاً ، وتصير الأضعاف أضعافاً ، فإن كان الأوّل فالحال واردة لحكاية الواقع فلا تفيد مفهوماً : لأنّ شرط استفادة المفهوم من القيود أن لا يكون القيد الملفوظ به جرَى لحكاية الواقع ، وإن كان الثَّاني فالحال واردة لقصد التشنيع وإراءة هذه العاقبة الفاسدة . وإذ قد كان غالب المدينين تستمرّ حاجتهم آجالاً طويلة ، كان الوقوع في هذه العاقبة مطرّداً ، وحينئذ فالحال لا تفيد مفهوماً كذلك إذ ليس القصد منها التقييدَ بل التشنيعَ ، فلا يقتصر التَّحريم بهذه الآية على الربا البالغ أضعافاً كثيرة ، حتَّى يقول قائل : إذا كان الرّبا أقلّ من ضعف رأس المال فليس بمحرّم . فليس هذا الحال هو مصبّ النَّهي عن أكل الربا حتَّى يَتَوهَّم متوهّم أنَّه إن كان دون الضعف لم يكن حرَاماً . ويظهر أنَّها أوّل آية نزلت في تحريم الربا ، وجاءت بعدها آية البقرة ، لأن صيغة هذه الآية تناسب ابتداء التشريع ، وصيغة آية البقرة تدلّ على أن الحكم قد تقرّر ، ولذلك ذكر في تلك الآية عذابُ المستمرّ على أكل الرّبا . وذُكر غرور من ظنّ الرّبا مثل البيع ، وقيل فيها { فمن جاءه موعظة من ربِّه فانتهى فله ما سلف } [ البقرة : 275 ] الآية ، كما ذكرناه آنفاً ، فمفهوم القيد معطَّل على كُلّ حال .
وحكمة تحريم الرّبا هي قصد الشَّريعة حملَ الأمَّة على مواساة غنيِّها محتاجَها احْتياجاً عارضاً موقّتاً بالقرض ، فهو مرتبة دون الصدقة ، وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة ، ومنها ندب كالصّدقة والسلففِ ، فإن انتدب لها المكلّف حرّم عليه طلب عوض عنها ، وكذلك المعروف كُلّه ، وذلك أن العادة الماضية في الأمم ، وخاصّة العرب ، أنّ المرء لا يتداين إلاّ لضرورة حياته ، فلذلك كان حقّ الأمَّة مواساته . والمواساة يظهر أنَّها فرض كفاية على القادرين عليها ، فهو غير الَّذي جاء يريد المعاملة للربح كالمتبايعيْن والمتقارضين : للفرق الواضح في العرف بين التعامل وبين التداين إلاّ أن الشرع ميّز هاته الواهي بعضها عن بعض بحقائقها الذاتية ، لا باختلاف أحوال المتعاقدين ، فلذلك لم يسمح لصاحب المال في استثماره بطريقة الرّبا في السلف ، ولو كان المستسلف غير محتاج ، بل كان طالبَ سعة وإثراءٍ بتحريك المال الَّذي يتسلّفه في وجوه الربح والتجارة ونحو ذلك ، وسمَح لصاحب المال في استثماره بطريقة الشركة والتِّجارة ودين السَّلَم ، ولو كان الرّبح في ذلك أكثر من مقدار الرّبا تفرقة بين المواهي الشرعية .
ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الرّبا البعدَ بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال ، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا ، فيكون تحريم الرّبا ، ولو كان قليلاً ، مع تجويز الربح من التِّجارة والشركات ، ولو كان كثيراً تحقيقاً لهذا المقصد .
ولقد قضى المسلمون قروناً طويلة لم يروا أنفسهم فيها محتاجين إلى التعامل بالرّبا ، ولم تكن ثروتهم أيّامئذ قاصرة عن ثروة بقية الأمم في العالم ، أزمان كانت سيادة العالم بيدهم ، أو أزمان كانوا مستقلّين بإدارة شؤونهم ، فلمَّا صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلامية ، وارتبط المسلمون بغيرهم في التِّجارة والمعاملة ، وانتظمت سوق الثَّروة العالمية على قواعد القوانين الَّتي لا تتحاشى المراباة في المعاملات ، ولا تعْرف أساليب مواساة المسلمين ، دهش المسلمون ، وهم اليوم يتساءلون ، وتحريم الربا في الآية صريح ، وليس لما حرّمه الله مبيح . ولا مخلص من هذا المضيق إلا أن تجعل الدول الإسلامية قوانين مالية تُبنى على أصول الشريعة في المصارف ، والبيوع ، وعقود المعاملات المركبة من رؤوس الأموال وعمل العمّال . وحوالات الديون ومقاصّتها وبيعها . وهذا يقضي بإعمال أنظار علماء الشريعة والتدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كلّ فرقة كما أمر الله تعالى .
وقد تقدّم ذكر الربا والبيوع الربوية عند تفسير قوله تعالى : { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس الآيات الخمس } من سورة [ البقرة : 275 ] .