وهذا الذي جرى عليهم من استحواذ الشيطان الذي استولى عليهم ، وزين لهم أعمالهم ، وأنساهم ذكر الله ، وهو العدو المبين ، الذي لا يريد بهم إلا الشر ، { إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير } .
{ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ } الذين خسروا دينهم ودنياهم وأنفسهم وأهليهم .
ثم يكشف عن علة حالهم هذه . فقد استولى عليهم الشيطان كلية ( فأنساهم ذكر الله ) . . والقلب الذي ينسى ذكر الله يفسد ويتمحض للشر : ( أولئك حزب الشيطان ) . . الخالص للشيطان الذي يقف تحت لوائه ، ويعمل باسمه ، وينفذ غاياته . وهو الشر الخالص الذي ينتهي إلى الخسران الخالص : ( ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ) . .
وهي حملة شديدة عنيفة تناسب الشر والأذى والفتنة التي يدبرونها للمسلمين مع أعدائهم الماكرين . وتطمئن قلوب المسلمين . والله - سبحانه وتعالى - يتولى عنهم الحملة على أعدائهم المستورين !
استئناف بياني لأن ما سيق من وصفهم بانحصار صفة الكذب فيهم يثير سؤال السامع أن يطلب السبب الذي بلغ بهم إلى هذا الحال الفظيع فيجاب بأنه استحواذ الشيطان عليهم وامتلاكه زمام أنفسهم يصرِّفها كيف يريد وهل يرضى الشيطان إلا بأشد الفساد والغواية .
والاستحواذ : الاستيلاء والغلب ، وهو استفعال من حَاذ حَوذاً ، إذا حاط شيئاً وصرَّفه كيف يريد . يقال : حَاذ العِير إذا جمعها وسَاقَها غالباً لها . فاشتقُّوا منه استفعل للذي يستولي بتدبير ومعالجة ، ولذلك لا يقال : استحوذ إلا في استيلاء العاقل لأنّه يتطلب وسائل استيلاء . ومثله استولَى . والسين والتاء للمبالغة في الغلب مثلها في : استجاب .
والأحوذي : القاهر للأمور الصعبة . وقالت عائشة : « كان عمر أحْوذياً نسيج وَحْدِهِ » .
وكان حق استحوذ أن يقلب عينه ألفاً لأن أصلها واو متحركة إثر ساكن صحيح وهو غير اسم تعجب ولا مضاعف اللام ولا معتل اللام فحقها أن تنقل حركتها إلى الساكن الصحيح قبلها فراراً من ثقل الحركة على حرف العلة مع إمكان الاحتفاظ بتلك الحركة بنقلها إلى الحرف قبلها الخالي من الحركة فيبقى حرف العلة ساكناً سكوناً ميتاً إثر حركة فيقلب مَدّة مجانسة للحركة التي قبلها مثل يَقوم ويَبين وأَقام ، فحق استحوذ أن يقال فيه : استحَاذ ولكن الفصيح فيه تصحيحه على خلاف غالب بابه وهو تصحيح سماعي ، وله نظائر قليلة منها : استنْوَق الجمل ، وأَعْول ، إذ رفع صوته . وأَغْيَمَت السماء واستَغْيَل الصبيّ ، إذا شرب الغَيْل وهو لبن الحامل . وقال أبو زيد : التصحيح هو لغة لبعض العرب مطردة في هذا الباب كله . وحكى المفسرون أن عمر بن الخطاب قرأ { استحاذ عليهم الشيطان } . وقال الجوهري : تصحيح هذا الباب كله مطرد . وقال في « التسهيل » : يطرد تصحيح هذا الباب في كل فعل أهمل ثلاثيه مثل : استنوق الجَمل واستتيست الشاة إذا صارت كالتيس .
وتقدم الكلام على الاستحواذ عند قوله تعالى : { قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } في سورة [ النساء : 141 ] ، فضُم هذا إلى ذاك .
والنسيان مراد منه لازمه وهو الإِضاعة وتركُ المنسي ، لقوله تعالى : { كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } [ طه : 126 ] .
والذكر يطلق على نطق اللسان باسم أو كلام ويطلق على التذكر بالعقل . وقد يخص هذا الثاني بضم الذال وهو هنا مستعمل في صريحه وكنايته ، أي مستعمل في لازمه وهو العبادة والطاعة لأن المعنى أنه أنساهم توحيد الله بكلمة الشهادة والتوجه إليه بالعبادة . والذي لا يَتذكر شيئاً لا يتوجه إلى واجباته .
وجملة { أولئك حزب الشيطان } نتيجة وفذلكة لقول : { استحوذ عليهم الشيطان } فإن الاستحواذ يقتضي أنه صيرهم من أتباعه .
واسم الإِشارة لزيادة تمييزهم لئلا يتردد في أنهم حزب الشيطان .
وجملة { ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } واقعة موقع التفرع والتسبب على جملة { أولئك حزب الشيطان } ، فكان مقتضى الظاهر أن يقال : فإن حزب الشيطان هم الخاسرون ، ولذلك عُدل عن ذلك إلى حرف الاستفتاح تنبيهاً على أهمية مضمونها وأنه مما يحق العناية باستحضاره في الأذهان مبالغة في التحذير من الاندماج فيهم ، والتلبس بمثل أحوالهم المذكورة آنفاً .
وزيد هذا التحذير اهتماماً بتأكيد الخبر بحرف { إن } وبصيغة القصر ، إذ لا يتردد أحد في أن حزب الشيطان خاسرون فإن ذلك من القضايا المسلمة بين البشر ، فلذلك لم تكن هذه المؤكدات لرد الإِنكار لتحذير المسلمين أن تغرهم حبائل الشيطان وتروق في أنظارهم بزة المنافقين وتخدعهم أيمانهم الكاذبة .
وإظهار كلمة { حزب الشيطان } دون ضميرهم لزيادة التصريح ولتكون الجملة صالحة للتمثل به مستقلة بدلالتها .
وضمير الفصل أفاد القصر ، وهو قصر ادعائي للمبالغة في مقدار خسرانهم وأنه لا خسران أشد منه فكأن كل خسران غيره عدم فيدعى أن وصف الخاسر مقصور عليهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{استحوذ عليهم الشيطان} يقول غلب عليهم الشيطان {فأنساهم ذكر الله أولئك حزب} يعني شيعة {الشيطان ألا إن حزب} يعني شيعة {الشيطان هم الخاسرون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بقوله: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشّيْطانُ}: غلب عليهم الشيطان {فأنْساهُمْ ذِكْرَ اللّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشّيْطانِ} يعني جنده وأتباعه. {ألا إنّ حِزْبَ الشّيْطانِ هُمُ الخاسِرُونَ} يقول: ألا إن جند الشيطان وأتباعه هم الهالكون المغبونون في صَفْقَتِهِمْ.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{استحوذ عليهم الشيطان} فيه قولان:
وفيه ثالث: أنه غلب واستولى عليهم في الدنيا.
{فأنساهم ذكر الله} يحتمل ذكر الله ها هنا وجهين:
أحدهما: أوامره في العمل بطاعته.
الثاني: زواجره في النهي عن معصيته.
ويحتمل ما أنساهم من ذكره وجهين: أحدهما: بالغفلة عنها. الثاني: بالشرك بها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{استحوذ عَلَيْهِمُ} استولى عليهم... ملكهم {الشيطان} لطاعتهم له في كل ما يريده منهم، حتى جعلهم رعيته وحزبه، {فأنساهم} أن يذكروا الله أصلاً لا بقلوبهم ولا بألسنتهم. قال أبو عبيدة: حزب الشيطان جنده.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
أي جمعهم وضمهم. يقال: أحوذ الشيء أي جمعه وضم بعضه إلى بعض، وإذا جمعهم فقد غلبهم وقوي عليهم وأحاط بهم. والنسيان قد يكون بمعنى الغفلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هنا. {أولئك حزب الشيطان} طائفته ورهطه، {ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} في بيعهم؛ لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة.
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
أضاف العصاة إلى الشيطان ليهينهم بالإضافة إليه ويحقرهم (الفروق: 2/220).
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
علامة استحواذ الشيطان على العبد أن يشغله بعمارة ظاهره من المآكل والمشارب والملابس، ويشغل قلبه عن التفكر في آلاء الله ونعمائه والقيام بشكرها، ويشغل لسانه عن ذكر ربه بالكذب والغيبة والبهتان، ويشغل لبه عن التفكر والمراقبة بتدبير الدنيا وجمعها.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
عن أبي الدرداء: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة في قرية ولا بَدْو، لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية". قال زائدة: قال السائب: يعني الصلاة في الجماعة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{استحوذ} أي طلب أن يغلب ويسوق ويسرع ويضرب الحوطة ويحث ويقهر ويستولي {عليهم الشيطان} مع أنه طريد ومحترق، ووجد منه جميع ذلك، ووصل منهم إلى ما يريده، وملكهم ملكاً لم يبق لهم معه اختيار فصاروا رعيته وأقطاعه، وصار هو محيطاً بهم من كل جهة...
{فأنساهم} أي فتسبب عن استحواذه عليهم أنه أنساهم {ذكر الله} أي الذي له الأسماء الحسنى والصفات العلى...
{أولئك} أي الذين أحلوا أنفسهم أبعد منزل {حزب الشيطان} أي أتباعه وجنده وجماعته وطائفته وأصحابه... {ألا} وأكد لظنهم الربح بما لهم في الدنيا من الكثرة وظهور التعاضد والاستدراج بالبسط والسعة فقال: {إن حزب الشيطان} أي الطريد المحترق {هم} أي خاصة {الخاسرون} أي العريقون في هذا الوصف لأنهم لم يظفروا بغير الطرد والاحتراق.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فأنساهم ذكر الله).. والقلب الذي ينسى ذكر الله يفسد ويتمحض للشر: (أولئك حزب الشيطان).. الخالص للشيطان الذي يقف تحت لوائه، ويعمل باسمه، وينفذ غاياته. وهو الشر الخالص الذي ينتهي إلى الخسران الخالص: (ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون).. وهي حملة شديدة عنيفة تناسب الشر والأذى والفتنة التي يدبرونها للمسلمين مع أعدائهم الماكرين. وتطمئن قلوب المسلمين...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {أولئك حزب الشيطان} نتيجة وفذلكة لقول: {استحوذ عليهم الشيطان} فإن الاستحواذ يقتضي أنه صيرهم من أتباعه. واسم الإِشارة لزيادة تمييزهم لئلا يتردد في أنهم حزب الشيطان...
.فكان مقتضى الظاهر أن يقال: فإن حزب الشيطان هم الخاسرون، ولذلك عُدل عن ذلك إلى حرف الاستفتاح تنبيهاً على أهمية مضمونها وأنه مما يحق العناية باستحضاره في الأذهان مبالغة في التحذير من الاندماج فيهم، والتلبس بمثل أحوالهم المذكورة آنفاً.وزيد هذا التحذير اهتماماً بتأكيد الخبر بحرف {إن} وبصيغة القصر، إذ لا يتردد أحد في أن حزب الشيطان خاسرون فإن ذلك من القضايا المسلمة بين البشر، فلذلك لم تكن هذه المؤكدات لرد الإِنكار لتحذير المسلمين أن تغرهم حبائل الشيطان وتروق في أنظارهم بزة المنافقين وتخدعهم أيمانهم الكاذبة. وإظهار كلمة {حزب الشيطان} دون ضميرهم لزيادة التصريح ولتكون الجملة صالحة للتمثل به مستقلة بدلالتها. وضمير الفصل أفاد القصر، وهو قصر ادعائي للمبالغة في مقدار خسرانهم وأنه لا خسران أشد منه فكأن كل خسران غيره عدم فيدعى أن وصف الخاسر مقصور عليهم. وحزب المرء: أنصاره وجنده ومن يواليهِ.