فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{ٱسۡتَحۡوَذَ عَلَيۡهِمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَأَنسَىٰهُمۡ ذِكۡرَ ٱللَّهِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ} (19)

{ استحوذ } استولى وغلب ، وساقهم سوق عنيفا ؛ وفي اللغة : الأحوذي : المشمر في الأمور القاهر لها لا يشذ عنه منها شيء .

{ حزب الشيطان } جنده وأتباعه .

{ يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون ( 18 ) استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون( 19 ) } .

لما تقدم في الآيات السابقات وعيد الله تعالى للمنافقين الذين يتولون اليهود والكافرين ، ويحلفون – زورا- أنهم مع المسلمين ، توعدهم الله بالعذاب الشديد في الدنيا ثم بالعذاب المهين المذل المخزي ، وذلك في يوم حشرهم على الله تعالى ووقوفهم بين يديه جميعا حين لا تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ؛ وقيل { يوم } منصوب بفعل محذوف ، تقديره : واذكر يوم يبعثهم الله ؛ يحييهم سبحانه ليحاسبهم ويعذبهم بأجمعهم لا يغادر منهم أحدا فيحلفون بين يديه كاذبين{[6381]} قائلين ما شهد به القرآن الحكيم : { . . والله ربنا ما كنا مشركين }{[6382]} ، ومثلما حلفوا لكم- زورا- أنهم مع المسلمين ، وأنهم يشهدون برسالة النبي الكريم ، يشهدون زورا بين يدي أحكم الحاكمين { ألا إنهم هم الكاذبون } فلن يخدعوا العليم الحكيم ، حاشا .

ومهما حسبوا أن هذا الحلف الباطل يوصلهم إلى شيء فلن يصلوا إلا إلى الدرك الأسفل من النار ، كيف لا ! وهم أكذب الكذابين ، بلغوا في الإفك غاية ليس وراءها غاية ، حيث تجاسروا على الكذب بين يدي علام الغيوب ؛ وإنما أرداهم هذا الردى أنهم تولوا الشيطان ؛ كما شهد القرآن ببراءته منهم يوم العرض على الملك الديان ، في قوله تعالى : { وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم . . . }{[6383]} .

فلما استجابوا له- عليه وعليهم اللعنة- استولى{[6384]} عليهم وغلب ، وجمعهم ليكونوا من أصحاب السعير ، وساقهم إلى الشرور والغرور والفجور سوقا عنيفا ؛ والأحوذي{[6385]} : المشمر في الأمور القاهر لها لا يشذ عنه منها شيء ؛ فزين لهم سوء عملهم فرأوه حسنا ، وأضلهم ضلالا بعيدا ، وألهاهم التفاخر والتكاثر وحب الشهوات وعبادة الأهواء عن التصديق بالله ورسالاته ، والاستجابة لعهده وأماناته وآياته ، نسوا ذلك وتركوه { أولئك حزب الشيطان } هؤلاء الذين أبعدوا في الغفلة والغواية جند الشيطان وأعوانه { ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } أنصار إبليس ودعاة فتنه ، غبنوا وحق عليهم الخسار والهلاك والبوار .


[6381]:- روى ابن أبي هاشم، عن سعيد بن جبير، أن عباس حدثه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة وعنده نفر من المسلمين فكاد يقلص عنهم الظل قال: "إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه" فجاء رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه فقال: "علام تشتمني أنت وفلان وفلان" نفر دعاهم بأسمائهم، قال: فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا له واعتذروا إليه، قال: فأنزل الله عز وجل: {فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون} ورواه أحمد وابن جرير.
[6382]:- سورة الأنعام . من الآية 23.
[6383]:- سورة إبراهيم. من الآية 22.
[6384]:روى أبو داود بسنده – عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلا وقد استحوذ عليهم الشيطان فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية" قال السائب: يعني الصلاة في الجماعة.
[6385]:- الحوذ: أن يتبع السائق حاذي البعير، أي أدبار فخذيه فيعنف في سوقه .