ف { قَالُوا } متعجبين من دعوته ، ومخبرين له أنهم من المحال أن يطيعوه : { أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } قبحهم اللّه ، جعلوا الأمر الذي هو أوجب الواجبات وأكمل الأمور ، من الأمور التي لا يعارضون بها ما وجدوا عليه آباءهم ، فقدموا ما عليه الآباء الضالون من الشرك وعبادة الأصنام ، على ما دعت إليه الرسل من توحيد اللّه وحده لا شريك له ، وكذبوا نبيهم ، وقالوا : { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } وهذا استفتاح منهم على أنفسهم .
ولكن الفطرة حين تنحرف لا تتفكر ولا تتدبر ولا تتذكر . . وهكذا أخذت الملأ العزة بالإثم ، واختصروا الجدل ، واستعجلوا العذاب استعجال من يستثقل النصح ، ويهزأ بالإنذار :
( قالوا : أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا ؟ فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) . . لكأنما كان يدعوهم إلى أمر منكر لا يطيقون الاستماع إليه ، ولا يصبرون على النظر فيه :
( أجئتنا لنعبد الله وحده ، ونذر ما كان يعبد آباؤنا ؟ ) ؛
إنه مشهد بائس لاستعباد الواقع المألوف للقلوب والعقول . هذا الاستعباد الذي يسلب الإنسان خصائص الإنسان الأصيلة : حرية التدبر والنظر ، وحرية التفكير والاعتقاد . ويدعه عبداً للعادة والتقليد ، وعبداً للعرف والمألوف ، وعبداً لما تفرضه عليه أهواؤه وأهواء العبيد من أمثاله ، ويغلق عليه كل باب للمعرفة وكل نافذة للنور . .
وهكذا استعجل القوم العذاب فراراً من مواجهة الحق ، بل فراراً من تدبر تفاهة الباطل الذي هم له عبيد ؛ وقالوا لنبيهم الناصح الأمين :
{ قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا } استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والإعراض عما أشرك به آباؤهم انهماكا في التقليد وحبا لما ألفوه ، ومعنى المجيء في { أجئتنا } أما المجيء من مكان اعتزل به عن قومه أو من السماء على التهكم ، أو القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبني . { فائتنا بما تعدنا } من العذاب المدلول عليه بقوله { أفلا تتقون } . { إن كنت من الصادقين } فيه .
وقوله تعالى : { قالوا أجئتنا } الآية ، ظاهر قولهم وحده أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا العبادة لله مع إقرارهم بالإله الخالق المبدع ، ويحتمل أن يكونوا منكرين لله ويكون قولهم لنعبد الله وحده أي على قولك يا هود ، والتأويل الأول أظهر فيهم وفي عباد الأوثان كلهم ، ولا يجحد ربوبية الله تعالى من الكفرة إلا من أفرطت غباوته كإربد بن ربيعة ، وإلا من ادعاها لنفسه كفرعون ونمرود ، وقوله : { فاتنا } تصميم على التكذيب واحتقار لأمر النبوءة واستعجال للعقوبة ، وتمكن قولهم : { تعدنا } لما كان هذا الوعد مصرحاً به في الشر ولو كان ذكر الوعد مطلقاً لم يجىء إلا في خبر .
جاوبوا هوداً بما أنبأ عن ضياع حجّته في جنب ضلالة عقولهم ومكابرة نفوسهم ، ولذلك أعادوا تكذيبه بطريق الاستفهام الإنكاري على دعوته للتّوحيد ، وهذا الجواب أقلّ جفوة وغلِظة من جوابهم الأوّل ، إذ قالوا : { إنّا لنراك في سفاهة وإنّا لنظنّك من الكاذبين } [ الأعراف : 66 ] كأنّهم راموا استنزل نفس هود ومحاولة إرجاعه عمّا دعاهم إليه ، فلذلك اقتصروا على الإنكار وذكروه بأنّ الأمر الذي أنكرهُ هوَ دينُ آباء الجميع تعريضاً بأنّه سفّه آباءه ، وهذا المقصد هو الذي اقتضى التّعبير عن دينهم بطريق الموصولية في قولهم : { ما كان يعبد آباؤنا } إيماء إلى وجه الإنكار عليه وإلى أنه حقيق بمتابعة دين آبائه ، كما قال الملأُ من قريش لأبي طالب حين دعاه النّبيء صلى الله عليه وسلم أنْ يقول : " لا إله إلا الله " عند احتضاره فقالوا لأبي طالب : « أترغَبُ عن ملّة عبد المطّلب » .
واجتلاب ( كانَ ) لتدلّ على أن عبادتهم أمر قديم مَضت عليه العصور .
والتّعبير بالفعل وكونه مضارعاً في قوله : { يَعبد } ليدلّ على أنّ ذلك متكرّر من آبائهم ومتجدّد وأنّهم لا يَفتُرون عنه .
ومعنى { أجئتنا } أقصدتَ واهتممت بنا لنعبد الله وحده فاستعير فعل المجيء لمعنى الاهتمام والتّحفّز والتّصلّب ، كقول العرب : ذَهب يفعل ، وفي القرآن : { يأيها المدّثّر قُمْ فأنْذِر } [ المدثر : 1 ، 2 ] وقال حكاية عن فرعون : { ثمّ أدْبَر يَسْعَى فحشر فنادى } [ النازعات : 22 ، 23 ] وفرعون لم يفارق مجلس ملكه وإنّما أريد أنّه أعرض واهتمّ ومثله قولهم ذهب يفعل كذا قال النّبهاني :
فإن كنتَ سيّدَنّا سُدْتَنا *** وإن كُنْتَ لِلْخَال فاذْهب فَخلْ
فقصدوا ممّا دلّ عليه فعل المجيء زيادة الإنكار عليه وتسفيهَه على اهتمامه بأمر مثل ما دعاهم إليه .
و { وحده } حال من اسم الجلالة وهو اسم مصدر أوْحَده : إذا اعتقده واحداً ، فقياس المصدر الإيجاد ، وانتصب هذا المصدر على الحال : إمّا من اسم الجلالة بتأويل المصدر باسم المفعول عند الجمهور أي مُوحَّداً أي محكوماً له بالوحدانيه ، وقال يونس : هو بمعنى اسم الفاعل أي موحِّدين له فهو حال من الضّمير في { لنعبد } .
وتقدّم معنى : { ونذر } عند قوله تعالى : { وذر الذين اتّخذوا دينهم لعباً ولهواً } في سورة الأنعام ( 70 ) .
والفاء في قوله : فأتنا بما تعدنا } لتفريع طلب تحقيق ما توعدهم به ، وتحدّياً لهود ، وإشعاراً له بأنّهم موقنون بأنْ لا صِدْق للوعيد الذي يتوعّدهم فلا يخشون ما وعدهم به من العذاب . فالأمر في قولهم : { فأتنا } للتّعجيز .
والإتيان بالشّيء حقيقته أن يجيء مصاحباً إيَّاه ، ويستعمل مجازاً في الإحضار والإثبات كما هنا . والمعنى فعجل لنا ما تعدنا به من العذاب ، أو فحقّق لنا ما زعمتَ من وعيدنا . ونظيرُه الفعلُ المشتقّ من المجيء مثل { ما جئتنَا ببيّنة } [ هود : 53 ] { الآن جئتَ بالحقّ } [ البقرة : 71 ] .
وأسندوا الفعل إلى ضميره تعريضاً بأن ما توعدهم به هو شيء من مختلقاته وليس من قِبَل الله تعالى ، لأنّهم يزعمون أنّ الله لا يحبّ منهم الإقلاع عن عبادة آلهتهم ، لأنّه لا تتعلّق إرادته بطلب الضّلال في زعمهم .
والوعد الذي أرادوه وعْد بالشرّ ، وهو الوعيد ، ولم يتقدّم ما يفيد أنّه توعّدهم بسوء ، فيحتمل أن يكون وعيداً ضمنياً تضمّنه قوله : { أفلا تتّقون } [ الأعراف : 65 ] لأنّ إنكاره عليهم انتفاء الاتّقاء دليل على أنّ ثمّة ما يُحذر منه ، ولأجل ذلك لم يُعَيِّنوا وعيداً في كلامهم بل أبهموه بقولهم { بما تعدنا } ، ويحتمل أن يكون الوعيد تعريضاً من قوله : { إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } [ الأعراف : 69 ] المؤذن بأنّ الله استأصل قوم نوح وأخلفهم بعاد ، فيوشك أن يستأصل عادا ويخلفهم بغيرهم .
وعقّبوا كلامهم بالشّرط فقالوا : { إن كنتَ من الصّادقين } استقصاء لمقدرته قصداً منهم لإظهار عجزه عن الإتيان بالعذاب فلا يسعه إلاّ الاعتراف بأنّه كاذب ، وجواب الشّرط محذوف دلّ عليه ما قبله تقديره : أتيتَ به وإلاّ فلست بصادق .