ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ * سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ }
وهذا نهي من الله للمؤمنين أن يطيعوا الكافرين من المنافقين والمشركين ، فإنهم إن أطاعوهم لم يريدوا لهم إلا الشر ، وهم [ قصدهم ]{[165]} ردهم إلى الكفر الذي عاقبته الخيبة والخسران .
ثم يمضي السياق خطوة أخرى في استعراض أحداث المعركة ؛ واتخاذها محورا للتعقيبات ، يتوخى بها تصحيح التصور ، وتربية الضمائر ، والتحذير من مزالق الطريق ، والتنبيه إلى ما يحيط بالجماعة المسلمة من الكيد ، وما يبيته لها أعداؤها المتربصون :
ولقد كانت الهزيمة في أحد مجالا لدسائس الكفار والمنافقين واليهود في المدينة . وكانت المدنية لم تخلص بعد للإسلام ؛ بل لا يزال المسلمون فيها نبتة غريبة إلى حد كبير . نبتة غريبة أحاطتها " بدر " بسياج من الرهبة ، بما كان فيها من النصر الأبلج . فلما كانت الهزيمة في أحد تغير الموقف إلى حد كبير ؛ وسنحت الفرصة لهؤلاء الأعداء المتربصين أن يظهروا أحقادهم ، وأن ينفثوا سمومهم ؛ وأن يجدوا في جو الفجائع التي دخلت كل بيت من بيوت المسلمين - وبخاصة بيوت الشهداء ومن أصابتهم الجراح المثخنة - ما يساعد على ترويج الكيد والدس والبلبلة في الأفكار والصفوف .
وفي هذه الفقرة التالية من الاستعراض القرآني الموجه - وهي تمثل جسم المعركة وأضخم مشاهدها - نسمع الله سبحانه يدعو الذين آمنوا ليحذرهم من طاعة الذين كفروا ؛ ونسمعه - سبحانه - يعدهم النصر على عدوهم ، وإلقاء الرعب في قلبه ؛ ويذكرهم بالنصر الذي حققه لهم في أول المعركة ، حسب وعده لهم ؛ والذي إنما أضاعوه هم بضعفهم ونزاعهم وخلافهم عن أمر رسول الله [ ص ] ثم يستحضر مشهد المعركة بشطريه ، في صورة فائضة بالحيوية والحركة . ثم ما أعقب الهزيمة والفزع ، من إنزال الطمأنينة في قلوب المؤمنين منهم ؛ بينما القلق والحيرة والحسرة تأكل قلوب المنافقين ، الذين ساء ظنهم بالله سبحانه . ويكشف لهم كذلك عن جانب من حكمته الخفية وتدبيره اللطيف ، في سير الأحداث سيرتها تلك ، مع تقرير حقيقة قدر الله في آجال العباد . ويحذرهم في نهاية هذه الفقرة من ضلال التصورات التي يشيعها الكفار في قضية الموت
والاستشهاد . ويردهم إلى حقيقة البعث ، التي ينتهي إليها الناس . . ماتوا أو قتلوا . . وإلى أنهم مرجوعون إلى الله على كل حال :
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ؛ ومأواهم النار ، وبئس مثوى الظالمين ! ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ، حتى إذا فشلتم ، وتنازعتم في الأمر ، وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ، ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ، ولقد عفا عنكم ، والله ذو فضل على المؤمنين . إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، والرسول يدعوكم في أخراكم ؛ فأثابكم غما بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم ، والله خبير بما تعملون . ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة ، نعاسا يغشى طائفة منكم ، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ، يقولون : هل لنا من الأمر من شيء ؟ قل : إن الأمر كله لله . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . قل : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم ، وليمحص ما في قلوبكم ؛ والله عليم بذات الصدور . إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ؛ ولقد عفا الله عنهم ، إن الله غفور حليم . يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا ، وقالوا لإخوانهم - إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى - : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم . والله يحيي ويميت ، والله بما تعملون بصير . ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون . ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون . . )
وحين ننظر في هذه المجموعة من الآيات نظرة فاحصة نجدها قد ضمت جوانحها على حشد ضخم من المشاهد الفائضة بالحيوية ، ومن الحقائق الكبيرة الأصيلة في التصور الإسلامي ، وفي الحياة الإنسانية . وفي السنن الكونية . . نجدها تصور المعركة كلها بلمسات سريعة حية متحركة عميقة ، فلا تدع منها جانبا إلا سجلته تسجيلا يستجيش المشاعر والخواطر ؛ وهي بدون شك أشد حيوية وأشد استحضارا للمعركة بجوها وملابساتها ووقائعها ، وبكل الخلجات النفسية والحركات الشعورية المصاحبة لها . . من كل تصوير آخر ورد في روايات السيرة - على طولها وتشعبها - ثم نجدها تضم جوانحها على ذلك الحشد من الحقائق في صورتها الحية الفاعلة في النفوس ، البانية للتصور الصحيح .
وما من شك أن احتشاد هذه المشاهد كلها ، وهذه الحقائق كلها ، في هذا القدر من الألفاظ والعبارات - مع حيويتها وحركتها وإيحائها على هذا النحو - أمر غير معهود في التعبير البشري . يدرك ذلك من يدركون أسرار الأساليب ، وطاقات الأداء ، وبخاصة من يعالجون منهم التعبير ، ويعانون أسرار الأداء !
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين . بل الله مولاكم وهو خير الناصرين ) . .
لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح ، ليثبطوا عزائمهم ، ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد ، ويصوروا لهم مخاوف القتال ، وعواقب الاشتباك مع مشركي قريش وحلفائهم . . وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب ، وخلخلة الصفوف ، وإشاعة عدم الثقة في القيادة ؛ والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء ؛ وتزيين الانسحاب منها ، ومسالمة المنتصرين فيها ! مع إثارة المواجع الشخصية والألام الفردية ؛ وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة ، ثم لهدم كيان العقيدة ، ثم للاستسلامللأقوياء الغالبين !
ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا . فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة ، وليس فيها ربح ولا منفعة . فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر . فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار ، ويكافح الباطل والمبطلين ، وإما أن يرتد على عقبيه كافرا - والعياذ بالله - ومحال أن يقف سلبيا بين بين ، محافظا على موقفه ، ومحتفظا بدينه . . إنه قد يخيل إليه هذا . . يخيل إليه في أعقاب الهزيمة ، وتحت وطأة الجرح والقرح ، أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم ، وهو مع هذا محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه ! وهو وهم كبير . فالذي لا يتحرك إلى الإمام في هذا المجال لا بد أن يرتد إلى الوراء ، والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان ، لا بد أن يتخاذل ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان ! والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين ، والاستماع إليهم ، والثقة بهم يتنازل - في الحقيقة - عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى . . إنها الهزيمة الروحية أن يركن صاحب العقيدة إلى أعداء عقيدته ، وأن يستمع إلى وسوستهم ، وأن يطيع توجيهاتهم . . الهزيمة بادىء ذي بدء . فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية ، والارتداد على عقبيه إلى الكفر ، ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس . . إن المؤمن يجد في عقيدته ، وفي قيادته ، غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته . فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب . . حقيقة فطرية وحقيقة واقعية ، ينبه الله المؤمنين لها ، ويحذرهم إياها ، وهو يناديهم باسم الإيمان :
( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسري )
وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب ، من الإيمان إلى الكفر ؟ وأي ربح يتحققق بعد خسارة الإيمان ؟
الإشارة بقوله : { الذين كفروا } إلى المنافقين الذين جبنوا{[3601]} المسلمين وقالوا في أمر - أحد - لو كان محمد نبياً لم يهزم ، والذين قالوا : قد قتل محمد فلنرجع إلى ديننا الأول ، إلى نحو هذه الأقوال ، ثم اللفظ يقتضي كل كافر كان في ذلك الوقت ويكون إلى يوم القيامة ، نهى الله المؤمنين عن طاعتهم .
استئناف ابتدائي للانتقال من التَّوبيخ واللوم والعتاب إلى التَّحذير ، ليتوسّل منه إلى معاودة التسلية ، على ما حصل من الهزيمة ، وفي ضمن ذلك كلّه ، من الحقائق الحكمية والمواعظ الأخلاقية والعبر التَّاريخية ، ما لا يحصيه مريد إحصائه .
والطاعة تطلق على امتثال أمْر الآمِر وهو معروف ، وعلى الدخول تحت حكم الغالب ، فيُقال طَاعَت قبيلة كذا وطوّع الجيش بلاد كذا .
و { الَّذين كفروا } شائع في اصطلاح القرآن أن يراد به المشركون ، واللفظ صالح بالوضع لكلّ كافر من مشرك وكتابي ، مظهر أو منافق .
والردّ على الأعقاب : الارتداد ، والانقلاب : الرجوع ، وقد تقدّم القول فيهما عند قوله : { أفأين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } [ آل عمران : 144 ] فالظاهر أنَّه أراد من هذا الكلام تحذير المؤمنين من أن يُخامرهم خاطر الدخول في صلح المشركين وأمانهم ، لأنّ في ذلك إظهار الضّعف أمامهم ، والحاجة إليهم ، فإذا مالوا إليهم استدرجوهم رويداً رويداً ، بإظهار عدم كراهية دينهم المخالف لهم ، حتَّى يردّوهم عن دينهم لأنَّهم لن يرضوا عنهم حتَّى يرجعوا إلى ملّتهم ، فالردّ على الأعقاب على هذا يحصل بالإخارة والمآل ، وقد وقعت هذه العبرة في طاعة مسلمي الأندلس لطاغية الجلالقة . وعلى هذا الوجه تكون الآية مشيرة إلى تسفيهِ رأي من قال : « لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان » كما يدلّ عليه قوله : { بل الله مولاكم } .
ويحتمل أن يراد من الطاعة طاعة القول والإشارة ، أي الامتثال ، وذلك قول المنافقين لهم : لو كان محمد نبيئاً ما قُتل فارجعوا إلى إخوانكم وملّتكم . ومعنى الردّ على الأعقاب في هذا الوجه أنَّه يحصل مباشرة في حال طاعتهم إيّاهم .