القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكّىَ * وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّىَ * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * وَالاَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىَ * إِنّ هَذَا لَفِي الصّحُفِ الاُولَىَ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىَ } .
يقول تعالى ذكره : قد نجح وأدرك طلبته من تطهّر من الكفر ومعاصي الله ، وعمل بما أمره الله به ، فأدّى فرائضه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى يقول : من تَزَكّى من الشرك .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، قال : حدثنا هشام ، عن الحسن ، في قوله قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى قال : من كان عمله زاكيا .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى قال : يعمل وَرِعا .
حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : حدثنا حفص بن عُمر العَدَنيّ ، عن الحكم ، عن عكرِمة ، في قوله : قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى من قال : لا إله إلاّ الله .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : قد أفلح من أدّى زكاة ماله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن عليّ بن الأقمر ، عن أبي الأحوص قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى قال : من استطاع أن يرضَخَ فليفعل ، ثم ليقم فليصلّ .
حدثنا محمد بن عمارة الرازي ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن عليّ بن الأقمر ، عن أبي الأحوص قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى قال : من رَضَخ .
حدثنا محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد بن مرّة ، قال : حدثنا زهير ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، قال : إذا أتى أحدكم سائل وهو يريد الصلاة ، فليقدّم بين يدي صلاته زكاته ، فإن الله يقول : قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّى فمن استطاع أن يقدّم بين يدي صلاته زكاةً فليفعل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى تزكى رجل من ماله ، وأرضى خالقه .
وقال آخرون : بل عنى بذلك زكاة الفطر . ذكر من قال ذلك :
حدثني عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن أبي خلدة ، قال : دخلت على أبي العالية ، فقال لي : إذا غَدَوت غدا إلى العيد فمرّ بي ، قال : فمررت به ، فقال : هل طَعِمت شيئا ؟ قلت : نعم ، قال : أَفَضْت على نفسك من الماء ؟ قلت : نعم ، قال : فأخبرني ما فعلت بزكاتك ؟ قلت : قد وجّهتها ، قال : إنما أردتك لهذا ، ثم قرأ : قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلّى وقال : إن أهل المدينة لا يَرَون صدقة أفضل منها ، ومن سِقاية الماء .
{ أفلح } في هذه الآية معناه : فاز ببغيته ، { وتزكى } معناه : طهر نفسه ونماها إلى الخير . قال ابن عباس : قال لا إله إلا الله فتطهر من الشرك ، وقال الحسن : من كان عمله زاكياً ، وقال أبو الأحوص : من رضخ{[11755]} من ماله وزكاه .
استئناف بياني لأن ذكر { من يخشى } [ الأعلى : 10 ] وذكر { الأشقى } [ الأعلى : 11 ] يثير استشراف السامع لمعرفة أثر ذلك فابتدىء بوصف أثر الشقاوة فوصف { الأشقى } بأنه { يصلى النار الكبرى } [ الأعلى : 12 ] وأخر ذكر ثواب الأتقى تقديماً للأهمّ في الغرض وهو بيان جزاء الأشقى الذي يتجنب الذكرى وبقي السامع ينتظر أن يعلم جزاء من يخشى ويتذكر . فلما وفي حق الموعظة والترهيبة استؤنف الكلام لبيان المثوبة والترغيب . فالمراد ب { من تزكى } هنا عين المراد ب « من يخشى ويذكر » فقد عرف هنا بأنه الذي ذكر اسم ربه ، فلا جرم أن ذكر اسم ربه هو التذكر بالذكرى ، فالتذكر هو غاية الذكرى المأمور بها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { فذكر } [ الأعلى : 9 ] .
وقد جُمعت أنواع الخير في قوله : { قد أفلح } فإن الفلاح نجاح المرء فيما يطمح إليه فهو يجمع معنيي الفوز والنفع وذلك هو الظفر بالمبتغى من الخير ، وتقدم في قوله تعالى : { وأولئك هم المفلحون } في البقرة ( 5 ) .
والإِتيان بفعل المضي في قوله أفلح } للتنبيه على المحقق وقوعه من الآخرة ، واقترانه بحرف { قد } لتحقيقه وتثنيته كما في قوله تعالى : { قد أفلح المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] وقوله : { قد أفلح من زكاها } [ الشمس : 9 ] لأن الكلام موجه إلى الأشقَيْنَ الذين تجنبوا الذكرى إثارة لهمتهم في الإلتحاق بالذين خشوا فأفلحوا .
ومعنى { تزكَّى } : عالج أن يكون زكياً ، أي بذل استطاعته في تطهير نفسه وتزكيتها كما قال تعالى : { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } [ الشمس : 9 10 ] .
فمادة التفعل للتكلف وبذل الجهد ، وأصل ذلك هو التوحيدُ والاستعداد للأعمال الصالحة التي جاء بها الإسلام ويجيء بها ، فيشمل زكاة الأموال .
أخرج البزار عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { قد أفلح من تزكى } قال : من شهد أن لا إله إلا الله ، وخلع الأنداد ، وشهد أني رسول الله ، { وذكر اسم ربه فصلى } قال : هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها ، وهو قول ابن عباس وعطاء وعكرمة وقتادة .
وقدم التزكّي على ذكر الله والصلاةِ لأنه أصل العمل بذلك كله فإنه إذا تطهرت النفس أشرقت فيها أنوار الهداية فعُلمت منافعها وأكثرت من الإِقبال عليها فالتزكية : الارتياض على قبول الخير والمراد تزكّى بالإِيمان .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره : قد نجح وأدرك طلبته من تطهّر من الكفر ومعاصي الله ، وعمل بما أمره الله به ، فأدّى فرائضه ... عن ابن عباس ، قوله : "قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى" يقول : من تَزَكّى من الشرك ... عن الحسن ، في قوله "قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى" قال : من كان عمله زاكيا ... عن قتادة "قَدْ أفْلَحَ مَنْ تَزَكّى" قال : يعمل وَرِعا .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : قد أفلح من أدّى زكاة ماله ...
وقال آخرون : بل عنى بذلك زكاة الفطر ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي من أتى بما تزكو به نفسه ، أو بما تطهر نفسه به . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
تطهر من الشرك والمعاصي . أو تطهر للصلاة . أو تكثر من التقوى ، من الزكاة وهو النماء . أو تفعل من الزكاة ، كتصدق من الصدقة . ...
( أحدهما ) أنه تعالى لما ذكر وعيد من أعرض عن النظر والتأمل في دلائل الله تعالى ، أتبعه بالوعد لمن تزكى ويطهر من دنس الشرك.
( وثانيهما ) : وهو قول الزجاج : تكثر من التقوى لأن معنى الزاكي النامي الكثير ، وهذا الوجه معتضد بقوله تعالى : { قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون } أثبت الفلاح للمستجمعين لتلك الخصال ...
وأما الوجه الأول فإنه معتضد بوجهين :
( الأول ) أنه تعالى لما لم يذكر في الآية ما يجب التزكي عنه علمنا أن المراد هو التزكي عما مر ذكره قبل الآية ، وذلك هو الكفر ، فعلمنا أن المراد ههنا : { قد أفلح من تزكى } عن الكفر الذي مر ذكره قبل هذه الآية.
( والثاني ) : أن الاسم المطلق ينصرف إلى المسمى الكامل ، وأكمل أنواع التزكية هو تزكية القلب عن ظلمة الكفر فوجب صرف هذا المطلق إليه ، ويتأكد هذا التأويل بما روي عن ابن عباس أنه قال معنى : { تزكى } قول : لا إله إلا الله . ...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ قد أفلح } أي فاز بكل مراد { من تزكّى } أي أعمل نفسه في تطهيرها من فاسد الاعتقادات والأخلاق والأقوال والأفعال والأموال وتنمية أعمالها القلبية والقالبية وصدقة أموالها ، وذلك هو التسبيح الذي أمر- به أول السورة وما تأثر عنه ، من عمل هذا فهو الأسعد .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقد جُمعت أنواع الخير في قوله : { قد أفلح } فإن الفلاح نجاح المرء فيما يطمح إليه فهو يجمع معنيي الفوز والنفع وذلك هو الظفر بالمبتغى من الخير ، وتقدم في قوله تعالى : { وأولئك هم المفلحون } في البقرة ( 5 ) . والإِتيان بفعل المضي في قوله أفلح } للتنبيه على المحقق وقوعه من الآخرة ، واقترانه بحرف { قد } لتحقيقه وتثنيته كما في قوله تعالى : { قد أفلح المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] وقوله : { قد أفلح من زكاها } [ الشمس : 9 ] لأن الكلام موجه إلى الأشقَيْنَ الذين تجنبوا الذكرى إثارة لهمتهم في الالتحاق بالذين خشوا فأفلحوا . ومعنى { تزكَّى } : عالج أن يكون زكياً ، أي بذل استطاعته في تطهير نفسه وتزكيتها كما قال تعالى : { قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها } [ الشمس : 9- 10 ] . فمادة التفعل للتكلف وبذل الجهد ، وأصل ذلك هو التوحيدُ والاستعداد للأعمال الصالحة التي جاء بها الإسلام ويجيء بها ، فيشمل زكاة الأموال . أخرج البزار عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { قد أفلح من تزكى } قال : من شهد أن لا إله إلا الله ، وخلع الأنداد ، وشهد أني رسول الله ، { وذكر اسم ربه فصلى } قال : هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها ، وهو قول ابن عباس وعطاء وعكرمة وقتادة . وقدم التزكّي على ذكر الله والصلاةِ لأنه أصل العمل بذلك كله فإنه إذا تطهرت النفس أشرقت فيها أنوار الهداية فعُلمت منافعها وأكثرت من الإِقبال عليها فالتزكية : الارتياض على قبول الخير والمراد تزكّى بالإِيمان . ...