قوله تعالى : { نحن قدرنا } قرأ ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بتشديدها وهما لغتان ، { بينكم الموت } ، قال مقاتل : فمنكم من يبلغ الهرم ومنكم من يموت صبياً وشاباً . وقال الضحاك : تقديره : إنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء ، فعلى هذا يكون معنى { قدرنا } : قضينا . { وما نحن بمسبوقين } بمغلوبين عاجزين عن إهلاككم وإبدالكم بأمثالكم . فذلك قوله عز وجل :{ على أن نبدل أمثالكم . . . }
هذه هي البداية . أما النهاية فلا تقل عنها إعجازا ولا غرابة . وإن كانت مثلها من مشاهدات البشر المألوفة :
( نحن قدرنا بينكم الموت ، وما نحن بمسبوقين ) . .
هذا الموت الذي ينتهي إليه كل حي . . ما هو ? وكيف يقع ? وأي سلطان له لا يقاوم ?
إنه قدر الله . . ومن ثم لا يفلت منه أحد ، ولا يسبقه فيفوته أحد . . وهو حلقة في سلسلة النشأة التي لا بد أن تتكامل . .
وقوله : نَحْنُ قَدّرْنا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ يقول تعالى ذكره : نحن قدرنا بينكم أيها الناس الموت ، فعجّلناه لبعض ، وأخّرناه عن بعض إلى أجل مسمى . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : قَدّرْنا بَيْنَكُمُ المَوْتَ قال : المستأخر والمستعجل .
وقوله : وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أنْ نُبَدّل أمْثالَكُمْ ، يقول تعالى ذكره : وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أيها الناس في أنفسكم وآجالكم ، فمفتات علينا فيها في الأمر الذي قدّرناه لها من حياة وموت بل لا يتقدم شيء من أجلنا ، ولا يتأخر عنه .
{ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت } .
استدلال بإماتة الأحياء على أنها مقدورة لله تعالى ضرورة أنهم موقنون بها ومشاهدونها ووادُّون دفعها أو تأخيرها ، فإن الذي قدر على خلق الموت بعد الحياة قادر على الإِحياء بعد الموت إذ القدرة على حصول شيء تقتضي القدرة على ضده فلا جرم أن القادر على خلق حيّ مما ليس فيه حياة وعلى إماتته بعد الحياة قدير على التصرف في حالتي إحيائه وإماتته ، وما الإحياء بعد الإِماتة إلا حالة من تينك الحقيقتين ، فوضح دليل إمكان البعث ، وهذا مثل قوله تعالى : { وهو الذي أحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم إن الإِنسان لكفور } [ الحج : 66 ] .
هذا أصل المفاد من قوله : { نحن قدرنا بينكم الموت } ثم هو مع ذلك تنبيه على أن الموت جعله الله طوراً من أطوار الإنسان لحكمة الانتقال به إلى الحياة الأبدية بعد إعداده لها بما تهيئُه له أسباب الكمال المؤهلة لتلك الحياة لتتم المناسبة بين ذلك العالم وبين عامريه . وقد مضى الكلام على ذلك عند تفسير قوله تعالى : { أفحسبتم أنّما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا تُرجعون } في سورة المؤمنين ( 115 ) .
فهذا وجه التعبير ب { قدرنا بينكم الموت } دون : نحن نميتكم ، أي أن الموت مجعول على تقدير معلوم مراد ، مع ما في مادة { قدرنا } من التذكير بالعلم والقدرة والإرادة لتتوجه أنظار العقول إلى ما في طيّ ذلك من دقائق وهي كثيرة ، وخاصة في تقدير موت الإنسان الذي هو سبيل إلى الحياة الكاملة إنْ أخذ لها أسبابها .
وفي كلمة { بينكم } معنى آخر ، وهو أن الموت يأتي على آحادهم تداولاً وتناوباً ، فلا يفلت واحد منهم ولا يتعين لحلوله صنف ولا عُمُرٌ فآذن ظرف ( بين ) بأن الموت كالشيء الموضوع للتوزيع لا يدري أحد متى يصيبه قسطه منه ، فالناس كمن دعوا إلى قسمة مال أو ثمر أو نعم لا يدري أحد متى ينادى عليه ليأخذ قسمه ، أو متى يطير إليه قِطُّه ولكنه يوقن بأنه نائله لا محاله .
وبهذا كان في قوله : { بينكم الموت } استعارة مكنية إذ شبه الموت بمقسوم ورمز إلى المشبه به بكلمة { بينكم } الشائع استعمالها في القسمة ، قال تعالى : { أن الماء قسمة بينهم } [ القمر : 28 ] . وفي هذه الاستعارة كناية عن كون الموت فائدة ومصلحة للناس إما في الدنيا لئلا تضيق بهم الأرض والأرزاق وإما في الآخرة فللجزاء الوفاق .
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإِفادة تقوّي الحكم وتحقيقه ، والتحقيق راجع إلى ما اشتمل عليه التركيب من فعل { قدرنا } وظرف { بينكم } في دلالتهما على ما في خلق الموت من الحكمة التي أشرنا إليها .
وقرأ الجمهور { قدّرنا } بتشديد الدال . وقرأه ابن كثير بالتخفيف وهما بمعنى واحد ، فالتشديد مصدره التقدير ، والتخفيف مصدره القَدر .
{ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } .
هذا نتيجة لما سبق من الاستدلال على أن الله قادر على الإِحياء بعد الموت فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بفاء التفريع ويترك عطفه فعدل عن الأمرين ، وعطف بالواو عطف الجمل فيكون جملة مستقلة مقصوداً لذاته لأن مضمونه يفيد النتيجة ، ويفيد تعليماً اعتقادياً ، فيحصل الإعلام به تصريحاً وتعريضاً ، فالصريح منه التذكير بتمام قدرة الله تعالى وأنه لا يغلبه غالب ولا تضيق قدرته عن شيء ، وأنه يبدلهم خلقاً آخر في البعث مماثلاً لخلقهم في الدنيا ، ويفيد تعريضاً بالتهديد باستئصالهم وتعويضهم بأمة أخرى كقوله تعالى : { إن يشأ يذهبكم ويأتِ بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز } [ إبراهيم : 19 ، 20 ] ولو جيء بالفاء لضاقت دلالة الكلام عن المعنيين الآخرين .
والسبق : مجاز من الغلبة والتعجيز لأن السبق يستلزم ان السابق غالب للمسبوق ، فالمعنى : وما نحن بمغلوبين ، قال الفقعسي مُرّةُ بن عداء :
كأنّك لم تُسبق من الدهر مَرة *** إذا أنتَ أدركتَ الذي كنت تطلُب
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"نَحْنُ قَدّرْنا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ "يقول تعالى ذكره: نحن قدرنا بينكم أيها الناس الموت، فعجّلناه لبعض، وأخّرناه عن بعض إلى أجل مسمى. وقوله: "وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أنْ نُبَدّل أمْثالَكُمْ"، يقول تعالى ذكره: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أيها الناس في أنفسكم وآجالكم، فمفتات علينا فيها في الأمر الذي قدّرناه لها من حياة وموت بل لا يتقدم شيء من أجلنا، ولا يتأخر عنه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: أنه لما كان هو الذي خلقكم وما ذكر، ثم قدر بينكم الموت، وفيكم الولي له والعدو، وقد سوى في الدنيا بين الولي والعدو، وفي الحكمة التفريق بينهما، دل أن هنالك دارا أخرى تفرق بينهما. {نحن قدرنا بينكم الموت} أي سوّينا بينكم في الموت بين عزيزكم وذليلكم ورفيعكم ووضيعكم، لا يسلم أحد منه. ويحتمل وجها آخر، هو أولى، وهو أنه لما قدر بينكم الموت، وكل واحد يكره الموت، ثم لم تملكوا دفع الموت عن أنفسكم، دل أن ههنا قاهرا قادرا يجب القول بوجوده والانقياد لأوامره ونواهيه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(نحن قدرنا بينكم الموت) فالتقدير: ترتيب الأمور على مقدار، فالله تعالى أجرى الموت بين العباد على مقدار ما تقتضيه الحكمة، فإنما أجراه الحكيم على ذلك المقدار...
وقوله (وما نحن بمسبوقين) أي لسنا بمسبوقين في تدبيرنا، لأن الأمور كلها في مقدور الله وسلطانه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
سبقته على الشيء: إذا أعجزته عنه وغلبته عليه ولم تمكنه منه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقرأ جمهور القراء: «قدّرنا» بشد الدال...والمعنى فيها يحتمل أن يكون بمعنى قضينا وأثبتنا، ويحتمل أن يكون بمعنى سوينا وعدلنا التقدم والتأخر، أي جعلنا الموت رتباً، ليس يموت العالم دفعة واحدة، بل بترتيب لا يعدوه أحد.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
وما نحن بمسبوقين لا يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{نحن} أي بما لنا من العظمة لا غيرنا، {بينكم} أي كلكم لم نترك أحداً منكم بغير حصة منه، {قدرنا} أي تقديراً عظيماً، لا يقدر سوانا على نقض شيء منه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت}. استدلال بإماتة الأحياء على أنها مقدورة لله تعالى ضرورة أنهم موقنون بها ومشاهدونها ووادُّون دفعها أو تأخيرها، فإن الذي قدر على خلق الموت بعد الحياة قادر على الإِحياء بعد الموت... {قدرنا بينكم الموت} دون: نحن نميتكم، أي أن الموت مجعول على تقدير معلوم مراد، مع ما في مادة {قدرنا} من التذكير بالعلم والقدرة والإرادة لتتوجه أنظار العقول إلى ما في طيّ ذلك من دقائق وهي كثيرة، وخاصة في تقدير موت الإنسان الذي هو سبيل إلى الحياة الكاملة إنْ أخذ لها أسبابها.آذن ظرف (بين) بأن الموت كالشيء الموضوع للتوزيع لا يدري أحد متى يصيبه قسطه منه، فالناس كمن دعوا إلى قسمة مال أو ثمر أو نعم لا يدري أحد متى ينادى عليه ليأخذ قسمه، أو متى يطير إليه قِطُّه ولكنه يوقن بأنه نائله لا محاله...
{وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ}. هذا نتيجة لما سبق من الاستدلال على أن الله قادر على الإِحياء بعد الموت...