{ 17 - 30 } { إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا * يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا * وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا * وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا * إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلطَّاغِينَ مَآبًا * لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا }
ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة الذي يتساءل عنه المكذبون ، ويجحده المعاندون ، أنه يوم عظيم ، وأن الله جعله { مِيقَاتًا } للخلق .
ولقد كان ذلك كله للعمل والمتاع . ووراء هذا كله حساب وجزاء . ويوم الفصل هو الموعد الموقوت للفصل : ( إن يوم الفصل كان ميقاتا . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا . وسيرت الجبال فكانت سرابا ) . .
إن الناس لم يخلقوا عبثا ، ولن يتركوا سدى . والذي قدر حياتهم ذلك التقدير الذي يشي به المقطع الماضي في السياق ، ونسق حياتهم مع الكون الذي يعيشون فيه ذلك التنسيق ، لا يمكن أن يدعهم يعيشون سدى ويموتون هملا ! ويصلحون في الأرض أو يفسدون ثم يذهبون في التراب ضياعا ! ويهتدون في الحياة أو يضلون ثم يلقون مصيرا واحدا . ويعدلون في الأرض أو يظلمون ثم يذهب العدل والظلم جميعا !
إن هنالك يوما للحكم والفرقان والفصل في كل ما كان . وهو اليوم المرسوم الموعود الموقوت بأجل عند الله معلوم محدود :
( إن يوم الفصل كان ميقاتا ) . .
وهو يوم ينقلب فيه نظام هذا الكون وينفرط فيه عقد هذا النظام .
وقوله : إنّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتا يقول تعالى ذكره : إن يوم يفصل الله فيه بين خلقه ، فيأخذ فيه من بعضهم لبعض ، كان ميقاتا لما أنفذ الله لهؤلاء المكذّبين بالبعث ، ولضربائهم من الخلق . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : إنّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتا وهو يوم عظّمه الله ، يفصِل الله فيه بين الأوّلين والاَخرين بأعمالهم .
هذا بيان لما أجمله قوله : { عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون } [ النبأ : 2 3 ] وهو المقصود من سياق الفاتحة التي افتتحت بها السورة وهيأتْ للانتقال مناسبة ذكر الإِخراج من قوله : { لنخرج به حباً ونباتاً } [ النبأ : 15 ] الخ ، لأن ذلك شُبه بإخراج أجساد الناس للبعث كما قال تعالى : { فأنبتنا به جنات وحب الحصيد } إلى قوله : { كذلك الخروج } في سورة ق ( 9 11 ) .
وهو استئناف بياني أعقب به قوله : { لنخرج به حباً ونباتاً } [ النبأ : 15 ] الآية فيما قصد به من الإِيماء إلى دليل البعث .
وأكد الكلام بحرف التأكيد لأن فيه إبطالاً لإِنكار المشركين وتكذيبهم بيوم الفصل .
ويومُ الفصل : يوم البعث للجزاء .
والفصل : التمييز بين الأشياء المختلطة ، وشاع إطلاقه على التمييز بين المعاني المتشابهة والملتبسة فلذلك أطلق على الحكم ، وقد يضاف إليه فيقال : فصل القضاء ، أي نوع من الفصل لأن القضاء يميز الحق من الظلم .
فالجزاء على الأعمال فصل بين الناس بعضهم من بعض .
وأوثر التعبير عنه بيوم الفصل لإِثبات شيئين :
أحدهما : أنه بَيَّن ثبوت ما جحدوه من البعث والجزاء وذلك فصل بين الصدق وكذبهم .
وثانيهما : القضاء بين الناس فيما اختلفوا فيه ، وما اعتدى به بعضهم على بعض .
وإقحام فعل { كان } لإِفادة أن توقيته متأصل في علم الله لِما اقتضته حكمته تعالى التي هو أعلم بها وأن استعجالهم به لا يقدّمه على ميقاته .
وتقدم { يوم الفصل } غير مرة أخراها في سورة المرسلات ( 14 ) .
ووصف القرآن بالفصل يأتي في قوله تعالى : { إنه لقول فصل } في سورة الطارق ( 13 ) .
والميقات : مفعال مشتق من الوقت ، والوقت : الزمان المحدَّد في عمل ما ، ولذلك لا يستعمل لفظ وقت إلا مقيداً بإضافة أو نحوها نحو وقت الصلاة .
فالميقات جاء على زنة اسم الآله وأريد به نفس الوقت المحدد به شيء مثل مِيعاد ومِيلاد ، في الخروج عن كونه اسم آلة إلى جعله اسماً لنفس ما اشتق منه . والسياق دل على متعلق ميقات ، أي كان ميقاتاً للبعث والجزاء .
فكونه { ميقاتاً } كناية تلويحية عن تحقيق وقوعه إذ التوقيت لا يكون إلا بزمن محقق الوقوع ولو تأخر وأبطأ .
وهذا رد لسؤالهم تعجيله وعن سبب تأخيره ، سؤالاً يريدون منه الاستهزاء بخبره .
والمعنى : أن ليس تأخر وقوعه دَالاَّ على انتفاء حصوله .
والمعنى : ليس تكذيبكم به مما يحملنا على تغيير إبانة المحدد له ولكن الله مستدرجكم مدة .
وفي هذا إنذار لهم بأنه لا يُدرَى لعله يحصل قريباً قال تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتة } [ الأعراف : 187 ] وقال : { قل عسى أن يَكون قريباً } [ الإسراء : 51 ] .