قوله تعالى : { فأنجيناه وأصحاب السفينة } يعني من الغرق ، { وجعلناها } يعني السفينة { آية }أي : عبرة ، { للعالمين } فإنها كانت باقية على الجودي مدة مديدة . وقيل : جعلنا عقوبتهم للغرق عبرة . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : بعث نوح لأربعين سنة ، وبقي في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا ، وكان عمره ألفاً وخمسين سنة .
{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } الذين ركبوا معه ، أهله ومن آمن به . { وَجَعَلْنَاهَا } أي : السفينة ، أو قصة نوح { آيَةً لِلْعَالَمِينَ } يعتبرون بها ، على أن من كذب الرسل ، آخر أمره الهلاك ، وأن المؤمنين سيجعل اللّه لهم من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا .
وجعل اللّه أيضا السفينة ، أي : جنسها آية للعالمين ، يعتبرون بها رحمة ربهم ، الذي قيض لهم أسبابها ، ويسر لهم أمرها ، وجعلها تحملهم وتحمل متاعهم من محل إلى محل ومن قُطرٍ إلى قُطرٍ .
( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، فأخذهم الطوفان وهم ظالمون . فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين ) . .
والراجح أن فترة رسالته التي دعا فيها قومه كانت ألف سنة إلا خمسين عاما . وقد سبقتها فترة قبل الرسالة غير محددة ، وأعقبتها فترة كذلك بعد النجاة من الطوفان غير محددة . وهو عمر طويل مديد ، يبدو لنا الآن غير طبيعي ولا مألوف في أعمار الأفراد . ولكننا نتلقاه من أصدق مصدر في هذا الوجود - وهذا وحده برهان صدقه - فإذا أردنا له تفسيرا فإننا نستطيع أن نقول : إن عدد البشرية يومذاك كان قليلا ومحدودا ، فليس ببعيد أن يعوض الله هذه الأجيال عن كثرة العدد طول العمر ، لعمارة الأرض وامتداد الحياة . حتى إذا تكاثر الناس وعمرت الأرض لم يعد هناك داع لطول الأعمار وهذه الظاهرة ملحوظة في أعمار كثير من الأحياء . فكلما قل العدد وقل النسل طالت الأعمار ، كما في النسور وبعض الزواحف كالسلحفاة . حتى ليبلغ عمر بعضها مئات الأعوام . بينما الذباب الذي يتوالد بالملايين لا تعيش الواحدة منه أكثر من أسبوعين . والشاعر يعبر عن هذه الظاهرة بقوله :
بغاث الطير أكثرها فراخا وأم الصقر مقلاة نزور ومن ثم يطول عمر الصقر . وتقل أعمار بغاث الطير . ولله الحكمة البالغة . وكل شيء عنده بمقدار . ولم تثمر ألف سنة - إلا خمسين عاما - غير العدد القليل الذين آمنوا لنوح . وجرف الطوفان الكثرة العظمى وهم ظالمون بكفرهم وجحودهم وإعراضهم عن الدعوة المديدة ، ونجا العدد القليل من المؤمنين ، وهم أصحاب السفينة . ومضت قصة الطوفان والسفينة ( آية للعالمين )تحدثهم عن عاقبة الكفر والظلم على مدار القرون .
وقوله : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } أي : الذين آمنوا بنوح عليه السلام . وقد تقدَّم ذكر ذلك مفصلا في سورة " هود " ، وتقدَّم تفسيره بما أغنى عن إعادته .
وقوله : { وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } أي : وجعلنا تلك السفينة باقية ، إما عينها كما قال قتادة : إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي ، أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق ، كيف نجاهم من الطوفان ، كما قال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ . وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ . وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ . إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } [ يس : 41 - 44 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ . لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11 ، 12 ] ، وقال هاهنا : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } ، وهذا من باب التدريج من الشخص إلى الجنس ، كقوله تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ]
أي : وجعلنا نوعها ، فإن التي يرمى{[22515]} بها ليست هي التي زينة للسماء{[22516]} . وقال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ . ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } [ المؤمنون : 12 ، 13 ] ، ولهذا نظائر كثيرة .
وقال ابن جرير : لو قيل : إنّ الضمير في قوله : { وَجَعَلْنَاهَا } {[22517]} ، عائد إلى العقوبة ، لكان وجهًا ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لّلْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : فأنجينا نوحا وأصحاب سفينته ، وهم الذين حملهم في سفينته من ولده وأزواجهم .
وقد بيّنا ذلك فيما مضى قبل ، وذكرنا الروايات فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وَجَعَلْناها آيَةً للْعالَمِينَ يقول : وجعلنا السفينة التي أنجيناه وأصحابه فيها عبرة وعظة للعالمين ، وحجة عليهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد عن قتادة ، قوله فأنجَيْناهُ وأصحَابَ السّفِينَةِ . . . الاَية . قال : أبقاها الله آية للناس بأعلى الجوديّ . ولو قيل : معنى : وَجَعَلْناها آيَةً للعالَمِينَ وجعلنا عقوبتنا إياهم آية للعالمين ، وجعل الهاء والألف في قوله وَجَعَلْناها كناية عن العقوبة أو السخط ، ونحو ذلك ، إذ كان قد تقدم ذلك في قوله فأخَذَهُمُ الطّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ كان وجها من التأويل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.