ذلك حكم القذف العام . ولكن استثني منه أن يقذف الرجل امرأته . فإن مطالبته بأن يأتي بأربعة شهداء فيه إرهاق له وإعنات . والمفروض ألا يقذف الرجل امرأته إلا صادقا لما في ذلك من التشهير بعرضه وشرفه وكرامة أبنائه . لذلك جعل لهذا النوع من القذف حكم خاص :
( والذين يرمون أزواجهم ، ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم . فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين ، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ) . .
وفي هذه النصوص تيسير على الأزواج ، يناسب دقة الحالة وحرج الموقف . ذلك حين يطلع الزوج على فعلة زوجته ؛ وليس له من شاهد إلا نفسه . فعندئذ يحلف أربع مرات بالله إنه لصادق في دعواه عليها بالزنا ، ويحلف يمينا خامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين . وتمسى هذه شهادات لأنه الشاهد الوحيد . فإذا فعل أعطاها قدر مهرها ، وطلقت منه طلقة بائنة ، وحق عليها حد الزنا وهو الرجم . . ذلك إلا أن ترغب في درء الحد عنها فإنها عندئذ تحلف بالله أربع مرات أنه كاذب عليها فيما رماها به ؛ وتحلف يمينا خامسة بأن غضب الله عليها إن كان صادقا وهي كاذبة . . بذلك يدرأ عنها الحد ، وتبين من زوجها بالملاعنة ؛ ولا ينسب ولدها - إن كانت حاملا - إليه بل إليها . ولا يقذف الولد ومن يقذفه يحد . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنّ غَضَبَ اللّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصّادِقِينَ } .
يعني جلّ ذكره بقوله : وَيَدْرَأُ عَنْها العَذَابَ : ويدفع عنها الحدّ .
واختلف أهل العلم في العذاب الذي عناه الله في هذا الموضع أنه يدرؤه عنها شهاداتها الأربع ، فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك ، من أنّ الحدّ جَلْدُ مئة إن كانت بكرا أو الرجْم إن كانت ثيبا قد أحصنت .
وقال آخرون : بل ذلك الحبس ، وقالوا : الذي يجب عليها إن هي لم تشهد الشهادات الأربع بعد شهادات الزوج الأربع والْتِعَانة : الحبس دون الحدّ .
وإنما قلنا : الواجب عليها إذا هي امتنعت من الالْتعان بعد الْتعان الزوج الحدّ الذي وصفنا ، قياسا على إجماع الجميع على أن الحدّ إذا زال عن الزوج بالشهادات الأربع على تصديقه فيما رماها به ، أن الحدّ عليها واجب ، فجعل الله أيمانه الأربع والْتعانة في الخامسة مخرجا له من الحدّ الذي يجب لها برميه إياها ، كما جعل الشهداء الأربعة مخرجا له منه في ذلك وزائلاً به عنه الحدّ فكذلك الواجب أن يكون بزوال الحدّ عنه بذلك واجبا عليها حدّها كما كان بزواله عنه بالشهود واجبا عليها ، لا فرق بين ذلك . وقد استقصينا العلل في ذلك في باب اللعان من كتابنا المسمى «لطيف القول في شرائع الإسلام » ، فأغني عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : أنْ تشْهَدَ أرْبَعَ شَهادَاتٍ باللّهِ يقول : ويدفع عنها العذاب أن تحلف بالله أربع أيمان : أن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة ، لمن الكاذبين فيما رماها من الزنا .
والدرء : الدفع بقوة ، واستعير هنا للإبطال . وتقدم عند قوله تعالى : { ويدرؤون بالحسنة السيئة } في سورة الرعد ( 22 ) .
والتعريف في { العذاب } ظاهر في العهد لتقدم ذكر العذاب في قوله : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [ النور : 2 ] . فيؤخذ من الآية أن المرأة إذا لم تحلف أيْمان اللعان أقيم عليها الحد . وهذا هو الذي تشهد به روايات حديث اللعان في السنة . وقال أبو حنيفة : إذا نكلت المرأة عن أيمان اللعان لم تحد لأن الحد عنده لا يكون إلا بشهادة شهود أو إقرار . فعنده يُرجع بها إلى حكم الحبس المنسوخ عندنا ، وعنده إنما نسخ في بعض الأحوال وبقي في البعض .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ويدرؤا عنها العذاب} يقول: يدفع عنها الحد لشهادتها بعد {أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين} {والخامسة أن غضب الله عليها إن كان} زوجها {من الصادقين}، في قوله...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ذكره بقوله: وَيَدْرَأُ عَنْها العَذَابَ: ويدفع عنها الحدّ...
واختلف أهل العلم في العذاب الذي عناه الله في هذا الموضع أنه يدرأه عنها شهاداتها الأربع؛
فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك، من أنّ الحدّ جَلْدُ مئة إن كانت بكرا أو الرجْم إن كانت ثيبا قد أحصنت.
وقال آخرون: بل ذلك الحبس، وقالوا: الذي يجب عليها إن هي لم تشهد الشهادات الأربع بعد شهادات الزوج الأربع والْتِعَانة: الحبس دون الحدّ.
وإنما قلنا: الواجب عليها إذا هي امتنعت من الالْتعان بعد الْتعان الزوج الحدّ الذي وصفنا، قياسا على إجماع الجميع على أن الحدّ إذا زال عن الزوج بالشهادات الأربع على تصديقه فيما رماها به، أن الحدّ عليها واجب، فجعل الله أيمانه الأربع والْتعانة في الخامسة مخرجا له من الحدّ الذي يجب لها برميه إياها، كما جعل الشهداء الأربعة مخرجا له منه في ذلك وزائلاً به عنه الحدّ فكذلك الواجب أن يكون بزوال الحدّ عنه بذلك واجبا عليها حدّها كما كان بزواله عنه بالشهود واجبا عليها، لا فرق بين ذلك...
وقوله:"أنْ تشْهَدَ أرْبَعَ شَهادَاتٍ باللّهِ" يقول: ويدفع عنها العذاب أن تحلف بالله أربع أيمان: أن زوجها الذي رماها بما رماها به من الفاحشة، لمن الكاذبين فيما رماها من الزنا.
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
ويتعلق بالتعانها ثلاثة أحكام: دفع الحد عنها، والتفريق بينها وبين زوجها، وتأبيد الحرمة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والدرء: الدفع بقوة، واستعير هنا للإبطال. وتقدم عند قوله تعالى: {ويدرؤون بالحسنة السيئة} في سورة الرعد (22). والتعريف في {العذاب} ظاهر في العهد لتقدم ذكر العذاب في قوله: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} [النور: 2]. فيؤخذ من الآية أن المرأة إذا لم تحلف أيْمان اللعان أقيم عليها الحد. وهذا هو الذي تشهد به روايات حديث اللعان في السنة.
فإن امتنعت الزوجة عن هذه الشهادة فقد ثبت عليها الزنا، وإن حلفت فقد تعادلا، ولم يعد كل منهما صالحا للآخر، وعندها يفرق الشرع بينهما تفريقا نهائيا لا عودة بعده، ولا تحل له أبدا.